يتفق المؤرخون على ان 107 هجرية (706م) كانت سنة تأسيس حركة المعتزلة. على ان تحديد سنة التأسيس ليس بالضرورة هو الموعد النهائي نظرا إلى تداخل تلك الفترة بحوادث أثارت الكثير من الالتباس في قراءات المؤرخين. فالمشكلة التي يقال إنها وقعت بين الشيخ الحسن البصري ومريده واصل بن عطاء وصديقه عمرو بن عبيد كانت في أيام خلافة هشام بن عبدالملك (105 - 125هـ) وهي جاءت بعد سلسلة تقلبات وانقلابات شهدتها الدولة الأموية في عصرها الثاني وقبل فترة وجيزة من اضمحلالها.
ففي العقد السابق على تأسيس المعتزلة تم فتح الأندلس في العام 92 هـ، وانتهت خلافة عمر بن عبدالعزيز (99 - 101 هـ) الذي كان له الفضل في جمع الأحاديث، ثم جاءت خلافة يزيد بن عبدالملك (101 - 105هـ) ثم شقيقه هشام.
في فترة يزيد وهشام اشتد الصراع السياسي على السلطة الأموية وازدادت الضغوط على الدولة من الأطراف. وخلالها قتل غيلان الدمشقي سنة 101هـ في مطلع عهد يزيد بسبب مغالاته في القول بـ «القُدرية». ولأن هذه المسألة شديدة الحساسية يشكك الشهرستاني في الجزء الأول من كتابه «الملل والنحل» في ان يكون الشيخ البصري من أنصار ذلك القول. فالشهرستاني يعلق على المسألة: «ورأيت رسالة نسبت الى الحسن البصري كتبها الى عبدالملك بن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية. واستدل فيها بآيات من الكتاب ودلائل من العقل». ويضيف الشهرستاني معلومة خطيرة يقول فيها تعقيبا على الرسالة «ولعلها لواصل بن عطاء، فما كان الحسن ممن يخالف السلف في ان القدر خيره وشره من الله تعالى. فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم»، (ص 47).
كلام الشهرستاني يدل على نقطتين: الأولى الاختلاط التاريخي في قراءة المصادر الفكرية للمعتزلة (الجيل المؤسس) وضياع المؤرخين بين أفكار غيلان الدمشقي والحسن البصري. والثانية ان السلف من دون استثناء أجمعوا على ان مصدر الخير والشر هو واحد والا سقطوا في ثنائية الخلق. فالصراع اذا تجاوز الخلاف على السلطة وطبيعة الدولة وكاد ان يصل الى الصانع ومصدر الخلق. والدفاع عن المصدر الواحد كان في جوهره دفاعا عن رسالة التوحيد التي هي جوهر الدعوة.
المعركة اذا كانت كبيرة وعلى رغم اختلاف العلماء على الكثير من التفاسير والشروح فإنهم أجمعوا على مسألة واحدة هي: المصدر الواحد لكل الأعمال والأفعال من خيرها وشرها... وغير ذلك يعني ان هناك أكثر من خالق وصانع.
إلا ان مرحلة التأسيس على رغم غموض بعض جوانبها التاريخية ومصادرها الفكرية، تبقى الأوضح في قراءة فترة نشوء المعتزلة وتطورها السياسي والايديولوجي. فهناك على الأقل شبه اجماع على ان المؤسس الأول هو واصل بن عطاء والثاني هو عمرو بن عبيد. بعد ذلك يبدأ تشعب الاعتزال وتداخل فرقه وتشتتها بين الاساتذة والتلاميذ، الأمر الذي أربك الكثير من المؤرخين في ضبط التتابع الزمني بين حلقة وأخرى.
هذا الارتباك له ما يبرره نظرا الى تنوع أفكار المعتزلة (على رغم اتفاقها على عناصر مشتركة) وتعدد مصادرها... وأحيانا موت التلامذة قبل اساتذتهم. فالعلاف (حمدان بن الهذيل) مثلا عاش طويلا وتوفي في حياته الكثير من تلامذته وكانوا في زمنه من شيوخ المعتزلة. وبسبب سيرة حياة العلاف الممتدة من مولده في العام 135هـ الى وفاته في العام 226هـ ويقال سنة 235هـ فإن هناك قرابة قرن من الزمن شهدت خلاله الأمة الكثير من الحوادث بدءا من نهاية الدولة الأموية بعد معركة الزاب في العام 132هـ وظهور مؤسس الدولة العباسية السفاح (أبوالعباس) بديلا عنها بين 132 و136هـ ثم قيامها على يد خليفتها الأول المنصور (أبوجعفر) الذي حكم بين 137 و158هـ... وانتهاء بالخليفة العباسي المتوكل الذي مال الى السُنة وطرد المعتزلة من أجهزة الدولة في العام 234 - 235هـ.
كل هذا الزمن الطويل (مئة سنة) من عمر الدولة العباسية عاصره العلاف وعايشه من حين مالت السلطة للمعتزلة الى حين انقلبت عليها وطردتها من الدولة. هذا الوقت أربك الكثير من المؤرخين وجعل بعض كتاب سيَّر شيوخ «الملل والنحل» يحتارون في تصنيف طبقات المعتزلة. فإذا صنفت الطبقات بحسب الوفيات يوضع العلاف في مرتبة متأخرة بينما هو بحسب التراتب الزمني من أوائل شيوخ المعتزلة، إذ يأتي في الدرجة الرابعة بعد واصل وعمرو وعثمان بن خالد الطويل. فالطويل يقال إنه أخذ الاعتزال مباشرة عن واصل وعمرو، ومن الطويل أخذ العلاف الاعتزال مباشرة. وهذا يعني ان العلاف هو من اوائل المنظّرين للاعتزال وتتلمذ عليه الكثير من التلاميذ والمريدين والشيوخ توفي معظمهم قبله.
الى هذه المشكلة هناك نقطة خلافية بين واصل وعمرو وهي كبرت بعد وفاة واصل واستمرار عمرو وحده يدعو الى منهج الاعتزال الى ان توفي في العام 144هـ. وبرحيل عمرو يبدأ الاختلاط مجددا بين من هو الرجل الثالث بعدهما. فهناك من يضع عثمان بن خالد الطويل بعد عمرو ويكتفي بالقول إنه أخذ الاعتزال عن واصل، أو أخذه عن واصل وعمرو معا. وهناك من يضع الاسواري ويقال إنه أخذه عن عمرو فقط لأن واصل آنذاك كان قد رحل.
مع الاسواري هناك أيضا مشكلة. وكما يبدو من كتب «الملل والنحل» هناك أكثر من أسواري. فهناك الاسواري (أبويونس) يتكلم عنه البلخي (من شيوخ المعتزلة لاحقا) بوصفه معاصرا لمعبد الجهني. ومعبد الجهني توفي في العام 80هـ.
وهناك الاسواري (أبوعلي) يتكلم عنه ابن النديم في «الفهرست» بوصفه معاصرا لعمرو بن عبيد. وهناك علي الاسواري يتحدث عنه الجرجاني في كتابه «التعريفات» بوصفه معاصرا للنظام (من كبار فلاسفة المعتزلة). وهناك من يعتبر الاسوارية فرقة كانت من اتباع العلاف ثم انشقت عنه والتحقت بالنظام.
مشكلة الاسواري مجرد مثال على تخبط التواريخ في كتب «الملل والنحل». ولأن المذكور حلقة مهمة في السلسلة فلابد من إعادة قراءة ما ورد عنه في مختلف الاتجاهات. ونبدأ بالبلخي. قال البلخي: أول من تكلم في القدر والاعتزال، أبويونس الاسواري، رجل من الاساورة يعرف بسنسويه. وتابعه معبد الجهني. ويقال إن سليمان بن عبدالملك تكلم فيه (يقصد القدر والعدل والتوحيد).
ابن النديم يقول عنه «وهو أبوعلي عمرو بن فائد الاسواري. من كبار المتكلمين من أهل البصرة. انقطع الى محمد بن سليمان بن علي الهاشمي. وهو من الأساورة لقي عمرو بن عبيد وأخذ عنه. وله مع عمرو مناظرات. توفي بعد سنة 200 هجرية» (ص 205).
الجرجاني يقول عنه «الأسوارية: هم أصحاب الأسواري. وافقوا النظامية فيما ذهبوا اليه، وزادوا عليهم: ان الله لا يقدر على ما أخبر بعدمه، أو عَلِم عَدَمَه، والانسان قادر عليه»، (ص 43).
وفي بعض الكتب يرد تعريف الاسوارية كالآتي: «فرقة من المعتزلة أسسها علي الاسواري. توفي سنة 240هـ. كان من اتباع العلاف وانتقل الى النظام. ثم أسس فرقته».
المسألة معقدة ويصعب فك ألغازها. نظرا إلى الابتعاد الفترات الزمنية بين الاسواري الأول الذي عاصر معبد الجهني في السنة التي ولد فيها واصل وعمرو (80 هجرية)، وبين الاسواري الثاني الذي التقى عمرو وتناظر معه ويرجح انه توفي بعد سنة 200 هجرية، والاسواري الثالث الذي كان من اتباع العلاف ثم النظام وتوفي سنة 204 هجرية، وبين الاسواري الرابع الذي انشق عن العلاف والنظام وأسس فرقته الخاصة وتوفي سنة 240 هجرية.
المهم في الاسوارية انها فرقة معروفة في سلسلة حلقات المعتزلة إلا انها ليست مهمة فكريا ولا في تأثيرها على جيلها او الاجيال بعدها. فهي فرقة خطها مقطوع الصلة مع غيرها على غير ما تشير اليه كتب «الملل والنحل» عن عثمان بن خالد الطويل. فالطويل ليس صاحب فرقة خاصة إلا ان أهميته كبيرة. فهو أخذ الاعتزال مباشرة عن واصل وعمرو، وبه تأثر العلاف الذي يعتبر المؤسس الثالث لحركة الاعتزال. فالطويل خطه غير مقطوع وله صلة بغيره وتأثيره مباشر على شيخ المعتزلة في عصره: العلاف
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 329 - الخميس 31 يوليو 2003م الموافق 02 جمادى الآخرة 1424هـ