على رغم إخلاصنا لعقيدتنا الإسلامية فإننا نحن المسلمين غير قادرين على إقامة حضارة تكتب لها أسباب البقاء. إذ علينا، في بحثنا عن أدوات بقائنا واستمرارنا، أن نتجاوز حدود دولنا ومجتمعاتنا المحلية إلى ما وراء ذلك على مختلف الأصعدة: العلمية والثقافية والفنية بل والأخلاقية. إذ لن يكون بوسعنا الدفاع عن أنفسنا طالما بقينا حضارة منعزلة تحتل المرتبة الثالثة في هذا العالم. ولكن وعلى رغم وضعنا هذا فإننا لا نكف عن ازدراء العالم وتسفيهه على رغم أننا نعيش عالة عليه. ولا عجب بعد ذلك ألا يكون لنا أي رأي في رسم نظام هذا العالم.
ومهما كانت أسباب تردينا وانحطاط حضارتنا، فإن دخولنا من جديد إلى هذا العالم بتاريخه وسياسته رهن بقدرتنا على اللحاق بركب العلوم الطبيعية المعاصرة، عن طريق استكشاف هذا الكون وفهمه كما هو ويمكن للإنسان المعاصر أن يلبي نداء الفطرة. إن نظام المعرفة الذي هو شرف الإنسان ومصدر قوته غائب للأسف كليا في حضارتنا. وما من شك في أن جانبا من هذا النظام قد حرمتنا منه القوى التي تهيمن على مقدرات هذا العالم، لكننا من واقع تقاليدنا وعن طيب خاطر فرطنا في كل أسبابه. ونجح جهابذتنا في وضع عقبات فلسفية كأداء في طريق أية نهضة ثقافية تقود إلى نضج علمي.
وقد جادل البعض، وعندهم بعض الحق، في أن فكرة «الطبيعة» التي تستقي منها معظم المعارف العلمية شكلها ومضمونها تثير بعض المشكلات عند بحثها من منظور إسلامي. وفي واقع الأمر فإن أعنف مواجهة ثقافية في صدر الإسلام بين كبار الفقهاء وبين جهابذة الفلسفة كانت بشأن فلاسفة الطبيعة المسلمين، وعقيدة الخلود عندهم وجدوى وجود هذا العالم. وكان رأي علماء الدين أن جميع الآراء القائلة بعدم وجود ناموس كوني تسيره يد إله قدير حكيم، يمكن أن يكون مردها إلى وجود نظام «طبيعة» حتمي ومستقل وقادر بذاته على البقاء. وكبديهية غيبية، فإن الطبيعة ليست هي مجموع الأشياء التي تشكلها فحسب، وإنما أيضا حتمية وجود هذا العالم بكليته. فكل شيء في الكون يسير بالطريقة التي يسير بها لأن في «طبيعته» ما يدفعه الى ذلك. أما المفهوم الإغريقي للطبيعة، سواء أكان افتراض وجود ذلك الكون التام في ذاته الجامع لصفات البقاء الذاتية الذي يصرف شئونه بنفسه، أو كان التعبير عن ميل طبيعي للأشياء إلى الانقياد لقوانين ذاتية، هذا الإدراك الإغريقي لمفهوم الطبيعة إنما يجافي تماما رؤية القرآن لهذا العالم. فالذكر الحكيم يخبرنا بأن هذا الكون موجود لا لحتمية ذاتية أو لضرورة من داخله لوجوده، وإنما وجد لأن يد القدرة العليا شاءت وجوده. فهو لازم لذاته أكثر منه نتيجة لوجود حاجة طبيعية إلى وجوده.
ويمكن أن تثار هذه الاعتراضات ذاتها ضد أي إدراك للكون على أنه زمن، أو للإنسان على أنه مجرد تاريخ، بمعنى إدراك الأول بصفاته الذاتية المطلقة بما يعنيه من إحالة إلى الذات، والثاني بصفته الوقتية بما تعنيه من إمكان الوصول المباشر إليه. لكن الرؤية القرآنية لهذا المفهوم إنما تركز على السمو الإلهي أكثر منه على ذلك الطابع المؤقت. إذ إن ذلك يليق بالمخاطب بهذا المفهوم وهو الإنسان في كل مكان على سطح البسيطة ومنذ بداية الخلق وعبر الأزمان. وحتى الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم كان في بداية الخلق وقبل بدء حساب الأزمان. فالإنسان لا يأتي إلى عالم الشهادة إلا بعد أن يشهد لله عز وجل بالربوبية. يقول سبحانه في محكم التنزيل «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» (الأعراف: 172). وأولى بديهيات الإيمان والإسلام بما يعنياه من الإذعان والانقياد لله تبارك وتعالى هو وجود تلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها منذ بدء الخلق وعبر مختلف الأزمان. والانقياد لله عز وجل ليس بالشيء الذي يمكن إدراكه تدريجيا وباطراد مع جريان الزمن، إنما هو قرار آني تتخذه روح كل إنسان من بني البشر دون حاجة إلى قطع رحلة للبحث عنه.
بل إن المنظور القرآني للزمن أكثر تشددا من نظرته إلى إدراك الدهر على أنه مجرد تسلسل زمني للحوادث. فالزمن من المنظور القرآني ليس هو الجريان الدائم للوقت والذي ينتج عنه مفهوم الزمنية أو الوقتية بمعناها المستمر أو المتعاقب، ولكنه يعني وجودا أبديا يحمل معه إمكان إسلام المرء لله. إن وعي الفطرة الذي أودعه الله نفوس عباده هو الذي يمخر عباب الوقتية الزمنية للتجربة البشرية المحدودة ويحولها إلى «آنيات» ثابتة ودائمة. وإذا نظرنا إلى الأمر من منظور نفس بشرية تائهة تنشد الهدى والطمأنينينة بكنف ذي الجلال، فإنه لا الطبيعة ولا الوقت بمفهومهما غير الإيماني سيكون لهما أي معنى في هذا السياق.
لكن الحجة التي نسوقها هنا هي أن الفكر الإسلامي الذي لا يعترف بأي نظام للطبيعة ناشئ من تلقاء ذاته أو تتوافر له عوامل البقاء الذاتية وتصريف شئونه بنفسه، هذا الفكر لا يرى غضاضة في أن يقبل بوجود عوالم أخرى تغيب فيها الأعراف ولا تحكمها القواعد. فهذا الفكر ليس منغلقا في طريق السعي إلى كشف غموض هذا الكون، كما أنه لا يرفض في الوقت ذاته المطالب المنطقية والأخلاقية اللازمة لوجود واقع كوني متسق يعول عليه ويمكن التكهن به. إن ما استبصره الإسلام من انتظام نظام هذا الكون الذي سوته يد الجلال، واتساقه، والتعويل عليه، وطرائقه نحو منهج تفكير علمي وعقلي إنما ينبع من مفاهيم قرآنية محددة أهمها وأبرزها مفهوم القدر، والذي هو أقرب شبها بجسر يربط بين يد المشيئة الإلهية وبين الأسباب الطبيعية لوقوع الأشياء.
ولأن القدر علامة على قدرة الله عز وجل، فإنه يبرز دقة الخلق وحسن تدبير أمور هذا الكون. إذ إن الفكرة الأساسية التي ينقلها لنا هي أن كل شيء خلقه الله إنما هو بقدر وبحساب. وإذا كان للبشر أو للأشياء أن تجري مجراها المألوف، أو تستمد سطوة ما طبيعية فلأن يد المشيئة الإلهية أرادت لها ذلك. فالله سبحانه وتعالى عندما يخلق أي شيء يودعه القوانين التي تحكم عمله. وقد تعددت أسماء هذه القوانين في النص القرآني فهي أحيانا «هدى»، وأحيانا «أمر»، وأحيانا «قدر». كما في هذه الآيات: «قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» (طه 50)، «الذي خلق فسوى. والذي قدر فهدى» (الأعلى: 2-3)، «ألا له الخلق والأمر» (الأعراف:54). وكما يقول عز من قائل: «إنا كل شيء خلقناه بقدر» (القمر:49)، وقال سبحانه: «وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (الحجر:21). فجعل الله لكل شيء قدرا إنما هو الذي يوفر لهذا الشيء انتظامه ودقة سيره وجريانه.
فإذا ما أردنا أن نفهم فكرة «الطبيعة» عند الإغريق، وهي الفكرة التي ليس لها نظير لا في القرآن ولا في التوراة، والتي كانت مثار كثير من التوترات بين الفلسفة وعلوم الدين في هاتين الثقافتين، فإن على المرء أن يعيد اكتشاف النظير الفلسفي لفكرة الطبيعة في اللغات السامية ذاتها. إذ يمكن الاستدلال على النظير الفلسفي للطبيعة في مفهوم «العادة»، أو «السنة أو الطريقة». فحين تجري الأشياء أو الأشخاص على مألوف عادتها وبشكل منتظم ومعروف سلفا، وعندما تفعل ما هي منوطة بفعله، فإننا يمكن أن نقول عنها إن في «طبيعتها» ما يدعوها إلى القيام بهذه الأعمال.
فمثلا حقيقة أن النار تحرق يمكن التعبير عنها إما بالقول: إنها تحرق لأن من عادتها أن تحرق (وفقا لمفهوم اللغات السامية)، أو القول: إنها تحرق لأن من طبيعتها أن تحرق (وفقا لمفهوم الفلسفة الإغريقية). ومع الأخذ في الاعتبار الطابع المعياري للسنة في الإسلام، وتخللها جميع علوم الدين والأخلاق والفقه والشريعة، فإنه يمكن للمرء أن يستخلص أن هذا المفهوم يشكل المنهج الإسلامي لفهم انتظام هذا الكون ودقة صنعته النابعين لا من حتمية داخلية، ولا من خصائص طبيعية وإنما من سنة الله سبحانه وتعالى. وعلى هذا فإنه يمكن وفقا لهذا الفهم القول إن النار تحرق لأن الله أراد لها أن تحرق. وترتيبا على ذلك، فإنه لا توجد هناك قوانين للطبيعة، وإنما فقط مشيئة الله. والمعجزة هي في أن يسلب الله الأشياء ما اختصها به من صفات تلازم وجودها.
غير أنه بالنسبة إلى بعض المذاهب الفلسفية الإسلامية، فإن انتظام الكون ودقة جريانه ليسا هبة إلهية. فالكون الذي حددت صفاته سلفا لا يمكن من وجهة نظرهم قياسه بقدرة إله قدير. فالأشاعرة على سبيل المثال يعتقدون أن الله هو السبب المطلق والمباشر لجميع الأشياء أو الحوادث، حتى وإن كان بين السبب والمسبب مرحلة وسط يتجلى فيها ما منحه الله للإنسان من حرية ومسئولية. غير أنه لا يتعين أن نخلص من هذا إلى أن الأشاعرة، ونتيجة قربهم الشديد من أهل السنة، يمثلون موقف الإسلام عموما من هذه القضية. إنكار الأشاعرة للطبيعة يتناقض مع رأي الغالبية من أصحاب الرأي السديد سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين، وسواء كانوا من أهل السنة كالعلماء والفقهاء أو من المتصوفة والمبتدعين، أو من غير أصحاب المذهب السني من أمثال المعتزلة وغيرهم.
بل وأبعد من ذلك أن إنكار بعض المذاهب الفقهية «للطبيعة» لم يكن يتعلق بجريانها على ذلك النحو المنتظم والثابت، بل بمدى استقلاليتها وذاتيتها في هذا الأمر، أو بالأحرى بكونه المصدر الأصلي لهذا الانتظام. لقد كان الأمر يتعلق بخلاف نظري أكثر منه بمسألة عملية. ففي الطب مثلا، كان من الجائز بل والمألوف أن يتم الاستشهاد بالطبيعة، لكنه كان من غير المقبول من الناحية الرسمية استحضار هذا المفهوم للطبيعة أو الاستشهاد به فيما يتعلق بنظرية السلوك البشري وما فيه من جبر أو اختيار حسبما كان يرى بعض العلماء والمفكرين.
كما يجب علينا أن نعي أنه وعلى رغم جميع المثالب المنطقية التي ينطوي عليها إرجاع هذا النظام الكوني المتقن إلى الطبيعة، فإن موقف الإسلام الجوهري من هذا الكون الذي يراه من صنع الله وأنه هبته لبني البشر، إنما هو موقف تبجيل وإجلال وعرفان بهذا الفضل العظيم. ويحفل الذكر الحكيم بالكثير من الآيات عن روعة هذا الكون ودقة صنعه وحسن تدبيره وجماله وبهائه واتساعه. فهو صنع الله ومعجزته الأولى، وهو يليق بكمال ذاته وتنزيهه سبحانه عن كل نقص. يقول عز من قائل في سورة الملك: «الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير» (2-3)، ويقول سبحانه في سورة النمل: «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء» (88).
إن اتساع هذا الكون بأرضه وسمائه إنما هو آية على وجود صانعه، كما يبلغنا بذلك القرآن الكريم في غير موضع. وفي الواقع فإن نظرة القرآن إلى الطبيعة بوصفها مفتاحا لإدراك وجود إله الأكوان، وعلى أنها خلق يدل على من خلقه، إنما تعبر كأفضل ما يكون التعبير عن موقف الإسلام من هذه المسألة. فبالنسبة إلى العقل الإسلامي فإن إدراك الطبيعة على أنها شيء دال على حقيقة أسمى، إنما يعززه ويدعمه حديث القرآن عن العلامات الطبيعية والغيبية. ومثلها مثل الظواهر الطبيعية فإن آيات القرآن الكريم هي آيات من عند الله ومن هذا المعنى اكتسبت تسميتها. وفي الواقع فإن الروح ذلك المستودع من الآيات الإلهية، إنما تتوسط بين عالم الشهادة وعالم الغيب وتضمن للإنسان سعادته الأبدية، يقول تعالى في سورة فصلت: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق»(53).
وبهذا فإن الإنسان ذاته هو المفتاح إلى فهم صحيح لعلم إسلامي عن الطبيعة. فالإنسان عليه المسئولية ولديه التفويض الإلهي لترتيب النظام أو النسق الأخلاقي لهذا العالم الذي نعيش فيه. إن رفض القرآن للطبيعة ليس رفضا لانتظام ناموسها ودقة تسيير شئونها، ولكنه رفض لاستقلالها وقيامها بذاتها بالنظر إلى علاقة ذلك بالإنسان. إن القرآن يعلن عن رؤية أخلاقية سامية لنظام الكون تتناقض كليا مع ما يقول به العلم الحديث من أن الطبيعة تفتقر لأية قيمة أخلاقية. وفي واقع الأمر فإن هذا المفهوم العلمي هو أساس مذهب عدمية القيم وانتفاء وجود أية أساس موضوعي لها، وخصوصا تلك النقطة المتعلقة بأن علاقة الإنسان بالطبيعة هي وسيلة عن طريقها تقوم الأنشطة الإنسانية وحدها بإضفاء القيمة على الأشياء. لكن الإسلام يرى أن عالم الطبيعة يجب أن يخضع دائما للغرض الذي خلق الله من أجله الإنسان وهو أن يكون خليفته في الأرض. وبهذه النظرة فقط عن استخلاف الله لبني البشر من أجل عمارة الأرض يمكن للعلم الحديث أن يبرأ من مثالبه الأخلاقية وافتقاره إلى المسئولية ونأيه عن القيم
العدد 328 - الأربعاء 30 يوليو 2003م الموافق 01 جمادى الآخرة 1424هـ