في الستينات من القرن الماضي قام الاتحاد السوفياتي ببناء جدار برلين في عاصمة المانيا. آنذاك كانت اوروبا منقسمة إلى شرقية وغربية، وكذلك المانيا التي هزمت في الحرب العالمية الثانية وتعرضت اراضيها للاجتياح من قوات الحلفاء من الجهتين: الجيش الأحمر الزاحف من روسيا والجيش الاميركي الزاحف من وراء المحيط الاطلسي.
انشطرت المانيا إلى قسمين وكادت الحرب تتجدد بين المنتصرين الا ان وصول القوى الكبرى آنذاك إلى حال من الاعياء غلّب عناصر التفاهم على دوافع القتال، واتفقت الاطراف على هدنة طويلة عرفت بـ «الحرب الباردة». «الحرب» كانت باردة لان الاطراف لجأت إلى وسائل سلمية للقتال فاستبدلت المدفع بالقلم والطائرة بالاذاعة وبدأ الهجوم المتبادل بين الجهتين.
وكل جهة تريد إثبات ان نموذجها هو الافضل، وان اقتصادها هو الاحسن، وان قدرتها على حل المشكلات اكثر انسانية من الأخرى. تركزت الحرب على التنافس السلمي الذي لم يمنع حصول سلسلة معارك خارج القارة الاوروبية لتجربة الأسلحة واثبات التفوق في ميدان التكنولوجيا العسكرية. فنشبت عشرات الحروب الصغيرة والدامية في كوريا وفيتنام ولاوس وكمبوديا وغيرها من الدول الآسيوية، كذلك انتقلت المعارك إلى افريقيا والعالم العربي وحصلت سلسلة معارك وانقلابات وانقلابات مضادة في الستينات والسبعينات وتكرر الامر نفسه في اميركا اللاتينية والوسطى وجزيرة كوبا.
شهدت الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي عشرات الحروب الصغيرة والمعارك السريعة والانقلابات الخاطفة للسيطرة على شبكة من المصالح الموزعة والمنتشرة دوليا خارج الحدود الاوروبية.
كانت الحرب باردة في اوروبا، وساخنة في العالم. ففي تلك الفترة شهد العالم ما يسمى بحرب الجاسوسية. وكان الجواسيس يشكلون حلقة سرية من تلك الحرب الكبرى التي تريد ان تنجز الانتصار من دون حاجة إلى اللجوء إلى البندقية والمدفع والطائرة. فأوروبا كانت ميدان الصراع بينما العالم الثالث كان ميدان الحروب الدائمة والمستمرة والمتنقلة من بلد إلى آخر ومن قارة إلى اخرى.
طالت الحرب الباردة كل دول العالم تقريبا ولم تبق بقعة الا وشهدت عينة من الصراعات العلنية أو السرية... وكان الهدف هو اثبات الوجود منعا للاختراق من جهة وتحقيق التفوق بالنقاط من جهة اخرى. ومن يجمع المزيد من النقاط يكون حقق خطوة إلى الامام في الفوز بالمباراة كلها. لم تكن الولايات المتحدة تحلم بالفوز بالضربة القاضية كما حصل في التسعينات. فهدفها كان تجميع النقاط ومحاصرة الاتحاد السوفياتي ومنعه من الخروج من الدائرة التي رسمتها اتفاقات يالطا في نهاية الحرب العالمية.
جدار برلين كان شكلا من اشكال الصراع السياسي - الثقافي على خطوط التماس بين المعسكرين. وحين قررت موسكو بناء ذاك الجدار كان القصد منه الحماية أو الدفاع عن المكتسبات الاشتراكية في وجه تسلل أو انسلال الاخطبوط الرأسمالي. الا انه تحول مع الايام إلى جدار يحجز خلفه الحرية ويمنع انتقال الناس والبضاعة من ضفة إلى أخرى. تحول إلى رمز للاستبداد وبات هدفا للانهيار والسقوط. آنذاك (في الستينات) وقف الرئيس الاميركي جون كيندي في برلين الغربية قبالة الجدار ودعا إلى اسقاطه. وبات اسقاط الجدار هو الهدف وفي حال انهار تسقط معه الاشتراكية كلها.
جدار برلين كان خطأ الاتحاد السوفياتي القاتل ومنه بدأت الثغرات تنتقل لتهدم الجدار السياسي - الثقافي واستمر الحفر إلى ان انهار لتنهار معه تجربة طويلة امتدت اكثر من 70 عاما.
الآن تكرر «اسرائيل» التجربة نفسها في مطلع القرن الجاري وهي تختلف عن تلك السوفياتية. جدار تل ابيب اقيم للفصل العنصري وهو يدلل على مدى رفض «اسرائيل» للمنطقة في وقت تدعي واشنطن انها تدعم حكومة ارييل شارون من اجل السلام وتطبيق «خريطة الطريق» وانفتاح الاسواق على بعضها وربط «الشرق الاوسط» اقتصاديا بالسوق الاميركية.
انها حكاية كاذبة. فالجدار «الأمني» تقيمه «إسرائيل» بأموال أميركية (مساعدات وغيرها) وهو يشير بوضوح إلى نوع من الاستعلاء العنصري على منطقة منكوبة اختيرت ضحية نظام دولي جديد تريد واشنطن قيادته ضد العالم.
انها في النهاية معركة جدار. والجدران في النهاية لا تحمي البشر لان التطور الانساني أسبق وأقوى. وما حصل لجدار برلين لابد انه سيحصل لجدار الفصل العنصري في فلسطين. فالزمن لايرحم. والجدار لا يحمي الانسان، بل الانسان يحمي الجدار
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 328 - الأربعاء 30 يوليو 2003م الموافق 01 جمادى الآخرة 1424هـ