من الشيخ الوائلي؟ هو الشيخ أحمد بن الشيخ حسون بن سعيد بن حمود الليثي الوائلي. اشتهرت هذه الأسرة في النجف بأسرة آل حرج، وحرج هو اسم الجد الأعلى لها وهو أول من نزح من الغراف بلدهم الأصلي وهبط في النجف الاشرف على اثر معركة بينه وبين بعض العشائر، ففر إلى النجف واتخذها موطنا ومسكنا وملاذا.
درس المرحوم الوائلي في النجف فبعد أن أنهى دراسة القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة في المكتب كما هي العادة الجارية يومذاك دخل المدارس النظامية في النجف، وكان أول أستاذ يتعلم على يديه هو الشيخ عبدالكريم قفطان الذي اشرف على تعليمه في مسجد الشيخ (علي نواية)، ثم ولج المدارس الرسمية وانتسب إلى مدرسة الملك غازي الابتدائية، ثم دخل مدارس منتدى النشر حتى تخرج فيها في العام 1962، وحصل على البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الاسلامية، ثم اكمل الماجستير في جامعة بغداد، وكانت رسالته (أحكام السجون) الكتاب المطبوع المتداول اليوم، ثم قدم الدكتوراه في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة حتى نالها بأطروحته المعنونة (استغلال الأجير وموقف الاسلام منه).
وإلى جانب ذلك توغل الوائلي في الدراسة الحوزوية وقرأ مقدمات العلوم العربية والاسلامية وتدرج فيها حتى المراحل المتقدمة على يد نخبة من أساتذة الحوزة المبرزين منهم الشيخ علي ثامر، والشيخ عبدالمهدي مطر، والشيخ علي سماكة، والشيخ هادي القرشي، والسيدحسين مكي العاملي، والشيخ علي كاشف الغطاء، والسيدمحمد تقي الحكيم، والشيخ محمد حسين المظفر، والشيخ محمد رضا المظفر والشيخ محمد تقي الايرواني، وهؤلاء الاساتذة هم علية القوم ومفاخر الحوزة، وقطع الوائلي شوطا من حياته الدراسية التي يعتز بها في ظل هذه الكوكبة اللامعة.
تميز الشيخ المرحوم بعدة ميزات إلا أن ابرز ما تميز به هو خطابته الحسينية التي قوبلت من جميع من استمع اليه بالاعجاب والتقدير لما اتسمت به من منهجية ودقة في الاداء والطرح، وموضوعية في تناول مختلف القضايا والشئون الاسلامية التي تستأثر باهتمام الفرد المسلم، ولقد كانت منهجية المرحوم الوائلي من أنجح المنهجيات الخطابية التي شهدها المنبر الحسيني طوال تاريخه، وذلك يعود الى أنها توافرت على كل عناصر النجاح التي تتطلبها مهمة الخطابة الحسينية، وهي:
العنصر الأول: تحديد موضوع المجلس الحسيني: حينما يقدم أي خطيب أو متحدث على الكلام في أي شأن من الشئون لابد أن يكون تحديده لموضوع حديثه تحديدا دقيقا ومميزا، وإذا افتقد هذا التحديد فسيتشتت في طرحه ويسبب ارباكا لدى المستمع والمتلقي، وربما يحصل نفور واشمئزاز من المتحدث أو الخطيب حينما يفتقد هذا التحديد لأن المستمع أو المتلقي سيشعر أنه يضيع وقته في ما لا يفيده، وأنه كان بامكانه أن يستثمر هذا الوقت في أمر يعود عليه بالمنفعة. وهذه الاشكالية التي يقع فيها الكثير من الخطباء التزم المرحوم الوائلي بالابتعاد عنها تماما، وكان يتحرى الجدية التامة في بيان وتحديد موضوع بحثه منذ اللحظة الأولى لارتقائه المنبر، ما يدفع المستمع للتوجه بكل احاسيسه لما سيقوله وهو يشعر في أثناء ذلك أنه يشارك المتحدث الرغبة في الوصول الى نتيجة محددة من وراء الكلام، وكأنما هناك مهمة مشتركة يتقاسم المتحدث والمستمع مسئولية انجازها والوصول إليها، وبهذه الطريقة يبعد المرحوم المستمع عن أن يمارس دور المتلقي فحسب الذي يقبل بكل ما يملى عليه، بل المستمع يشعر أنه يشارك المتحدث مهمة الوصول الى الفكرة واستنتاجها.
العنصر الثاني: الحفاظ على قدرة الربط بين اجزاء الموضوع: هذه خصلة أخرى يحتاجها الخطيب الناجح وهي ابداء القدرة على تفهيم المستمع أن هناك خيطا مشتركا يربط بين كل عناصر موضوع الحديث مهما بدت متعددة أو حتى متضاربة، وهذا الأمر يتوقف على تحديد الهدف الذي يريد الخطيب أو المتحدث أن يوصل اليه الجمهور، وأن يوصله إلى الجمهور، فبعد أن كان الوائلي يحدد موضوع بحثه تحديدا دقيقا كان يحرص كل الحرص على تقديم فكرته ضمن إطار محدد ايضا يجمع شتاتها ويوصل بين أطرافها عبر رؤية عميقة تقوم على تأسيس الرأي في المسألة المبحوثة من خلال مطالعة واسعة يشعر المستمع انها تقف وراء كل فكرة يتحدث عنها الخطيب الوائلي.
وعلى رغم أنه كان يكثر من تناول الكثير من الموضوعات الدقيقة والمتشعبة من حيث افكارها وتعدد الآراء بشأنها، إلا أنه كان بارعا في الربط بين اجزاء الموضوع الواحد بحيث لا يدع المستمع يخرج بخلاصة غير محددة وواضحة من وراء مجلسه، وربما لأجل ذلك شعر الكثير من المثقفين بانجذاب خاص نحو مجالسه التي كانت تتسم بمزيد من الوضوح والسلاسة في طرحها وانتظام أفكارها.
العنصر الثالث: اعتماد المنهجية العلمية في تقرير الفكرة: على رغم أن الشيخ الوائلي كان يثير الكثير من الموضوعات في محاضراته، والتي تكون ذات صبغة اجتماعية تارة، وتاريخية تارة أخرى، وسياسية تارة ثالثة، وعقائدية تارة رابعة... وهكذا، إلا أن ما يميز منبر المرحوم هو التناول العلمي الموضوعي لمختلف القضايا، ولذلك نستطيع القول: إن الوائلي هو أهم شخصية منبرية حسينية استطاعت أن تضفي الطابع العقلي العلمي على الخطابة الحسينية، والتي كانت في نظر الكثيرين مجرد وسيلة لاستثارة العاطفة واستدرار الدمعة، حتى لو كان ذلك على حساب المضمون المفيد والفكرة المتزنة والرأي الهادف.
وعملية الموازنة هذه بين علمية الفكرة والطبيعة العاطفية التي تهيمن في العادة على اجواء الخطابة الحسينية لم تكن بالأمر البسيط والهين، ولكن الوائلي استطاع أن يحافظ على هذا التوازن بشكل دقيق وظل محافظا على طابعه العلمي الموضوعي في تناول مختلف القضايا التي عنى بالتطرق إليها من على المنبر، وقد لاحظته يتحرى الدقة في ما ينسبه الى الآخرين حتى لو خالفوه الرأي، ولا يعتمد على مقولات غير مؤكدة تنطلق من الأفواه وتتداولها الكتب من دون تثبت وجزم بصحتها، وكانت تتملكه حساسية شديدة تجاه التشويه والتزوير التي تمارسة بعض التوجهات الاسلامية ضد بعضها الآخر مبتعدة عن ثقافة الاسلام التي تدعو الى تحري الدقة والشعور بالمسئولية في كل كلمة يقولها الانسان في حق أخيه المسلم.
وفي هذا السياق كان يندد بكل تلك المحاولات التي يقوم بها البعض والتي تسعى لاشهار حربة التكفير والتضليل في مواجهة من يختلفون معهم من طوائف المسلمين وفرقهم موضحا خطر هذه المنهجية على حاضر الأمة ومستقبلها، ومنافاتها لقوله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» (الأنبياء 92).
العنصر الرابع: التوظيف الجيد للشواهد التاريخية والحوادث الاجتماعية: من أهم الملاحظات التي تتبدى لمستمع خطابة المرحوم الوائلي هو وفرة الشواهد التاريخية التي يستخدمها في مجالسه، وليس هذا وحسب، وانما كان يضيف إلى ذلك التوظيف الجيد لهذه الشواهد بما يخدم الفكرة وموضوع المحاضرة الذي يريد للمستمع أن يتعرف على أبعاده وأن يتفهمه من مختلف زواياه، وهذا ما كان يعطي للحدث التاريخي أهمية كبيرة من حيث وضعه ضمن السياق الذي يخدم دعم الفكرة وترسيخ طابعها العلمي والموضوعي بعيدا عن محاولة توظيف الحدث التاريخي توظيفا سيئا يساهم في تعميق الخلافات والانشطارات بين أبناء المجتمع المسلم الواحد، ومن خلال ذلك استطاع الوائلي أن يجير التاريخ والحدث الاجتماعي لصالح النظرة النقدية الفاحصة التي لا تقوم على تبني التقديس المطلق للماضي والتاريخ وشخصياته، ولكنها في الوقت نفسه لا تستهدف الغاء التاريخ والقفز على معطياته التي لا مناص من التعامل معها، هكذا كان الشيخ الراحل يوظف الحدث التاريخي والاجتماعي في نقد الواقع المعاش عبر تسليط الضوء على سلبياته وتراجعاته، ولكن من خلال الرجوع الى التاريخ واستنطاقه ومحاولة وصله بالحاضر.
العنصر الخامس: تعميق الثقافة القرآنية في نفوس المستمعين: فلقد اهتم الشيخ الوائلي على الدوام وفي الأعم الأغلب من محاضراته بعرض وبيان آراء المفسرين تجاه آية معينة، أو قضية معرفية مثارة في التفسير القرآني، وهذا كان يدعم بشكل واضح الثقافة القرآنية عند المستمع ويفتح له آفاقا كبيرة في التعرف على مضامين وابعاد النص القرآني، وهذه ظاهرة تميز بها منبر المرحوم تميزا خاصا، وكانت تعكس اهتماما مركزا من قبله بمعارف القرآن الكريم، وكان المستمع يعلم من خلال المقارنات التي يجريها الشيخ الوائلي في مجالس حديثه بين آراء المفسرين الى ان يقنع المستمع بالرأي الصحيح أن هذا المتحدث قد أتعب نفسه في مطالعات دؤوبة وطويلة وفاحصة من أجل التوصل الى الرأي الحصيف من بين ركام الآراء والأقوال.
العنصر السادس: استثمار المجال العاطفي في خدمة أهداف الثورة الحسينية: لقد اسهم الوائلي في أن ينحو بالخطاب الديني منحى جديدا عبر المزاوجة الرائعة بين الخطاب المعرفي الرصين والخطاب العاطفي المتزن، فكان عبر الأسلوب الأول من الخطاب يستثير افكار المستمع، وعبر الاسلوب الثاني يستثير عواطفه ومشاعره، وعلى رغم أن العاطفة كانت تتقاطع مع العقل في نهاية كل مجلس حسيني من مجالس المرحوم إلا أن التقاطع كان رائعا، والتشابك بين الاثنين كان متزنا، ومن المعلوم أن القضية الحسينية لو تمت خدمتها عبر هذه المنهجية لكانت أكثر عطاء في حياة الناس، وأكثر تجذرا وفعلا في نفوس المحبين الذين كانوا يرون في الحسين (ع) ركيزة انطلاقتهم في الحياة وتحليقهم في سماء الوعي والكرامة من خلال جناحي العقل والعاطفة.
وختاما نستطيع القول ان الشيخ الوائلي قد استطاع ان يحول المنبر الحسيني الى مدرسة بما للكلمة من معنى، فقد كان منهجيا في أدائه، واضحا في طرحه، علميا في اسلوبه، مثيرا في نقده مرهفا في احاسيسه، وهذه كلها سمات قل من يستجمعها من المتحدثين والخطباء، فرحم الله علامتنا المرحوم واسكنه فسيح جناته، وجزاه عنا وعن جميع المسلمين خير جزاء المحسنين، إنه سميع مجيب
إقرأ أيضا لـ "سيد كامل الهاشمي"العدد 327 - الثلثاء 29 يوليو 2003م الموافق 30 جمادى الأولى 1424هـ