لا يختلف اثنان على أن الولايات المتحدة الأميركية بدأت تنظر إلى أكراد العراق باعتبارهم بديلا يغنيها عن التحالف التركي الأميركي.
كما لا يختلف اثنان على أن الأتراك لعبوها (صح) حين لم يترك حزب العدالة الإسلامي الحاكم أرض تركيا مسرحا ليقدم الراعي الأميركي سيركه عليه من دون مقابل. كما لا يختلف اثنان على أن تركيا بذلك قد أغاظت الأميركان ما جعلهم ينظرون إلى حليفهم التقليدي نظرة غضب وخصوصا أنهم يرون حلفاءهم العرب مستعدين إلى أن يمشوا على ركبهم لو طلب بوش منهم ذلك.
كما لا يختلف اثنان على أن الشعب التركي صاحب تاريخ عظيم مثل الشعب الإيراني موغل في القدم وكانت له امبراطورية كبرى يوما ما ممتدة من هضبة الأناضول إلى معظم دول الشرق الأوسط قبل التآمر البريطاني عليها ووعودها الكاذبة للعرب. وكان الغرب يهابه قبل أن يصبح رجلا مريضا ولهذا فإن ما فعله الأميركان كان طعنة في مقتل للكرامة التركية حين اعتقلت 11 ضابطا تركيا وأساءت معاملتهم عدا أنهم دخلوا إحدى مدارس التركمان في شمال العراق وشجعوا الأكراد على طرد المئات منهم ما أصاب الشعب التركي والعسكر التركي بالذهول والإحساس بالمهانة.
كل هذه وتلك متفق عليهما من قبل رواة أحاديث السياسة الثقات، وكل هذه وتلك تفسحان المجال لقراءة جديدة في الحال الشرق أوسطية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا تعني هذه المعطيات؟ وكيف يمكن الاستفادة من هذا الوضع المستجد بين الولايات المتحدة وتركيا؟
قبل كل شيء يجب الاعتراف بأن تركيا دولة قوية وبيدها كثير من الأوراق الحساسة أهمها أنها:
- تتحكم في مصادر المياه الآتية لكل من العراق وسورية.
- «إسرائيل» تستمد الكثير من قوتها من خلال اتفاقات التعاون معها.
- بها الكثير من أشكال الصناعة والزراعة وذات أسعار منخفضة تحتاج إليها معظم الدول العربية.
- دولة عسكرية قوية يمكن من خلال التحالف معها تغيير ميزان القوى لصالح العرب إذا تمكنت الدول العربية من فك ارتباطها مع «إسرائيل».
وفي الوقت الذي فيه العوامل نفسها التي قد تكون لصالحها إلا أن بعض هذه العوامل يمكن أن تكون مشجعة لشدها جهة البلاد العربية وكسر جناح «إسرائيل» وخصوصا أن مراهنة «إسرائيل» على الوجود الأميركي في العراق لا يمكن الاعتماد عليه بديلا في حال ابتعاد تركيا عنها لأن المراهنة على إبقاء الولايات المتحدة في العراق على غرار وجودها في أفغانستان أمر فيه كثير من النظر، فهو مستبعد جدا. ومن بين الأمور التي تشجع على إبعاد تركيا عن «إسرائيل» لكسر جناحها:
- ان لتركيا أسواقا رائجة في كل البلاد العربية والأرقام تنطق بذلك وخصوصا إذا قارنا الفرق بين الكثافة السكانية العربية و«إسرائيل» التي هي دولة صناعية لا تحتاج للمنتجات التركية.
- تركيا على رغم أنها دولة علمانية إلا أنها دولة إسلامية، أكثر من 90 في المئة من سكانها مسلمون وما نجاح حزب العدالة - بتولي الحكم على رغم كل ما بذله العسكر التركي والأميركان و«إسرائيل» إلا أنها في النهاية بدأت تعود لأصلها وموقعها الطبيعي - إلا دليلا على ذلك.
- الكم الكبير من العرب الذين يتدفقون سنويا للسياحة في تركيا لا يمكن الاستهانة به.
- كونها ممرا إلى أوروبا ودول كثيرة أخرى مثل البلقان وأوروبا الشرقية.
كل ذلك يجعلها تستفيد من الانفتاح العربي عليها، ولو أن تسهيلات أخرى تمكنت تركيا من تقديمها للسائح العربي لامتلأت ذهبا من المال العربي.
لهذا كله يمكن القول إن شراء ود هذه الدولة الإسلامية وتحسين وضعها الاقتصادي والتنموي من خلال رؤوس أموال عربية مضمونة للتجار والمستثمرين العرب لا خوف عليه من التغيرات السياسية كدولة ذات مؤسسات ثابتة من قيام مفاجآت انقلابية بها، ما سيجعل العلاقة معها مستقرة.
إن الشعب التركي والنظام التركي مهيآن أكثر من اي وقت مضى إلى أن تنفصل عن «إسرائيل» وخصوصا أن تجاوزات «إسرائيل» وما تقوم به من جرائم تجاه الشعب العربي الفلسطيني لن يرضي المسلم التركي وان المد الإسلامي بدأ يجتاح كل آفاق البلاد الإسلامية، ما يجعل المراهنة على نجاح المناورة في إغرائها إما بالضغط على «إسرائيل» لتعطي مزيدا من التنازلات للفلسطينيين أو بقطع اليد الممدودة بينهما، وخصوصا إذا علمنا أن «إسرائيل» بقيادة الليكود لا يمكن ان يطمئن الإنسان إلى رضوخها لتنفيذ خريطة الطريق مع أنها تصب لصالحها إلا أن البوادر تكشف أنها لن تستكمل الشروط وسط تساهل الولايات المتحدة معها. وسيعود الوضع من جديد إلى المربع الأول وان «إسرائيل» ستعود لمواقع احتلالها السابقة، والمقاومة الفلسطينية مضطرة إلى أن تعود من جديد إلى سابق عهدها، ومن هنا تأتي أهمية إقامة مزيد من العلاقات الاقتصادية معها.
صحيح أن الولايات المتحدة و«إسرائيل» قد تحاولان إعاقة توثيق العلاقة مع تركيا ووضع عراقيل أمام خطوات جادة في هذا المجال لكن الطغيان الأميركي الذي بلغه اليوم واحتلاله للعراق وعدم قدرته على ضبط الأوضاع وخصوصا أن الأميركان جاؤوا من دون برنامج مسبق، ما يجعلهم غير قادرين على تهدئة الأوضاع فيه، وان طبيعة الشعب العراقي وثقافة الإنسان العراقي والحس القومي والوطني في العراق أمور تجعل العراق مختلفا تماما عن أفغانستان فإن كانت التجربة الأميركية نجحت بعض الشيء في أفغانستان فهي لن تنجح في العراق وكل المؤشرات تؤكد ذلك فما يعانيه المحتل الأميركي في العراق اليوم من مقاومة شرسة غير ما يعانيه في أفغانستان.
ولهذا فإن هذه التجربة المريرة التي يمر بها الأميركان هذه الأيام خففت كثيرا من سرعة رغبتهم في التدخل في دول عربية وإسلامية أخرى؛ فالدولة التي كانت مؤهلة أكثر من غيرها في الترحيب بالمحتل الأميركي لما عاناه شعبها من عذابات لا توصف وظلم غير محدود وفقر مدقع وغياب لكل أشكال الحرية والديمقراطية حتى بلغ حدا أن هرب ربع شعبها للخارج لم يرحب شعبها بهذا المحتل فكيف بدول أقل توترا في العلاقة وشعب أكثر استعدادا للدفاع عن نظامه على رغم ما بينهما من سوء علاقة كما هو معروف بين الشعوب العربية والإسلامية وأنظمتها. ولهذا فإن دخول الأميركان العراق أصبح درسا خدم بلدانا اخرى كانت على قائمة الغزو، ما جعل إدارة بوش تستخدم الجزرة هذه المرة بدل العصاة.
صحيح أن العقلية الأميركية المتسمة بالغرور والصلف والحماقة تفضل الحلول العسكرية لعدم وجود رادع لها في الساحة الدولية لكن عملية اجتياح العراق والمقاومة اليومية للجيش الأميركي وكمية التضحيات التي تقدمها لاستمرار بقائها أمور أعادت للطاغوت الأميركي بعض صوابه بأن دخوله بلدا آخر بحجم إيران أو السعودية أو حتى سورية يحتاج إلى ألف حساب وخصوصا أن الملف الفلسطيني لم يتم الانتهاء منه بسبب عدم قدرتهم على فرض ضوابط على حكومة شارون ومن هنا فإن تلويح الكونغرس الأميركي بدعم المعارضة في البلدان التي كانت ستلتهمها الواحدة تلو الأخرى بعد خروج صدام من الساحة يؤكد هذا التردد في إعادة الحسابات من جديد.
لهذا فإن قيام تحالف إيراني تركي عربي بشكل جاد ومثمر، وخصوصا مع بروز دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا (غير راضية بجعل قيادة العالم في يد الإدارة الأميركية لتفعل ما تريد وتسيء لمن تريد وتوزع نفط العالم على من تريد وتفتح الباب أمام الشركات التي تريد وتغلقها في وجه غيرها حسب هواها) أمر لم يعد يعجب عددا من دول أوروبا وخصوصا أن حليفها الأول على وشك السقوط، وحزب العمال البريطاني أصبح في مهب الريح على رغم محاولات الولايات المتحدة لدعم بلير، وحتى بوش نفسه والإدارة الأميركية هي أيضا أصبحت محل مساءلات كثيرة وبدأت تتسع قاعدة معارضيها مع زيادة المقاومة العراقية وزيادة عدد قتلى الجيش الأميركي.
المهم أن الأجواء مناسبة تماما اليوم لتغيير الواقع المر والخريطة البشعة التي رسمتها الولايات المتحدة لتحويل الشرق الأوسط إلى مستعمرة كاملة ليلعب فيها المارينز الأميركي كما يشاء وتتحول شعوب هذه المنطقة من متلقية لصدقات ومكرمات حكامها إلى متصدق آخر مقبل من المحيط الأطلسي.
إن الأجواء مناسبة فعلا لخلق مصالحة وطنية بين شعوب هذه المنطقة وأنظمتها، لو عاد حكامها إلى رشدهم وأوقفوا نهب المال العام وصَفّى حكام هذه البلدان العناصر الجشعة منها بإيقافها عن مواصلة وجودها في مواقعها التقليدية التي استمرت فيها عقودا طويلة في صنع القرار وأحالتها إلى التقاعد، ووضعت خططا طموحة وسريعة لتصحيح المسار بإدخال إصلاحات حقيقية بإعادة جانب كبير من الأموال التي نهبت إلى خارج البلاد لاستثمارها في الداخل وخلق ديمقراطية ترضي شعوبها وتصون أموالها وحقوقها وكرامتها إلى جانب رسم خريطة جديدة من العلاقة مع دول الجوار الكبرى بعيدا عن رعب العصا الأميركية بمشاركة شعوبها في كل ما يجري بحيث تتعاون الدول العربية وإيران وتركيا، وبذلك يمكن لهذه الأنظمة إعادة هيبتها واحترامها محليا وعالميا فالويالات المتحدة ليست الوحيدة التي بيدها ملكوت كل شيء فالاتجاه نحو الصين ودول أوروبا التي بدأت تخرج على طوع السيد الأميركي أمر سيصب لصالح أنظمتنا العربية.
وإذا أضفنا أن محاولة الأميركان في توسيع رقعة سيطرتهم في الساحة الإفريقية التي هي مواقع تقليدية للدول الأوروبية سندرك ان الخلاف سيتسع بين الراعي الأميركي وبين هذه البلدان... ولهذا فإن كل الأجواء مهيأة لقيادات الشرق الأوسط لتغيير خريطة الطريق المرسومة لها
العدد 326 - الإثنين 28 يوليو 2003م الموافق 29 جمادى الأولى 1424هـ