العدد 326 - الإثنين 28 يوليو 2003م الموافق 29 جمادى الأولى 1424هـ

الجوار الأميركي يقلق الصمت العربي!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

أصبحت أميركا جارة جغرافية استراتيجية للعرب، بعد أن احتلت العراق وألقت على أرضه بأكثر من مئة وسبعين ألف جندي، وصارت تحكمه وتتحكم في شئونه بدرجة مطلقة. وإلى أن تتغير الاوضاع، فإن الجوار الاميركي للعرب اضفى على العلاقات العربية الاميركية طابعا جديدا، غير ذلك الذي ألفناه من قبل، حين كان الوجود العسكري او السياسي والفني الاميركي يأتي ويروح، وفق الظروف والاتفاقات العسكرية والأمنية خصوصا.

اميركا «العراقية» تقف الآن على أرض صلبة وتخطط لوجود طويل الأمد، فتجاور أرضيا سورية والاردن والسعودية والكويت، وتجاور بحريا باقي دول الخليج، وتتطلع فوق الحدود نحو فلسطين ثم مصر غربا، ناهيك طبعا عن حليفتها الاستراتيجية الأولى «اسرائيل».

فماذا يعني ذلك من المنظور السياسي النفسي على الأقل، وكيف يؤثر الثقل - الضغط الاميركي - على مجريات الأمور وتطوراتها السياسية في هذه المجموعة العربية التي تمثل قلب الأمة، وما التحديات الحالية والمقبلة، ثم كيف نتعامل معها وفق قانون التحدي والاستجابة المعروف للكافة!!

ندرك جميعا ان افتضاح التلفيق الانجلو اميركي بمبرر شن الحرب ضد العراق، وهو امتلاكه وتطويره اسلحة الدمار الشامل، قد أسقط حجة رئيسية من أيدي الغزاة المستعمرين الجدد، لكن ظلت الحجج الأخرى كثيرة وقائمة، اذ كانت حجة قهر بؤر الارهاب المنسوب إلى العرب والمسلمين أكثرها علانية، فإن حماية الأمن الاسرائلي ودعم المشروع التوسعي الصهيوني في المنطقة يظل أهمها حتى ولو توارى خلف أستار الحجج الأخرى.

والواضح ان الاحتلال الانجلو اميركي جلب معه أو خلفه للعراق، وجودا اسرائيليا موازيا، بدأت ملامحه تبين وتظهر درجة وراء أخرى، ما يشكل اختراقا هائلا لدولة عربية كبرى ذات موقع وأهمية استراتيجية معروفة، يكسر الجدار العربي القديم الذي كان يحيط بالدولة الصهيونية، قافزا فوق الحدود الجغرافية والسياسية والنفسية، بعد انفراده بفلسطين كاملة تقريبا.

وهو ما لم تكن «اسرائيل» وحدها هي الحريصة عليه، بل كانت الولايات المتحدة الاميركية هي الأكثر حرصا عليه، في اطار خطتها لدمج «اسرائيل» في المنطقة واعطائها دورا قياديا محوريا يتخطى من حيث الأهمية أدوار دول عربية أكبر وأهم، كانت تظن أن احدا لا يجرؤ على أن ينزع منها مثل هذا الدور التاريخي، وها هو المنظور الاميركي الجديد الرامي إلى إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة، على سياساته وأهدافه.

ونظن أن مثل هذا التحول الاستراتيجي، ان كان يقلق دولة مهمة مثل سورية، بحكم جوارها مع العراق حيث الوجود الاميركي الثقيل من ناحية، ومع «اسرائيل» الحليف الاميركي الوثيق من ناحية اخرى، فإنه يقلق بدرجة أكبر دولة المركز مصر لأنه يفرض عليها أوضاعا ويرتب نتائج جديدة، تضعف من دورها المحوري، وتضيق عليها الحناق، وتحرمها من تحالفات عربية تاريخية، وخصوصا مع دمشق امتدادا لبغداد، وهي تحالفات لعبت كل الأدوار المهمة في التاريخ العربي والاسلامي القديم والمعاصر!

وكان متوقعا - وخصوصا من جانب السذج امثالي - أن تسرع الدول العربية الرئيسية إلى قراءة الخريطة السياسية الجديدة، وتستوعب التحديات الخطيرة الناجمة عن غزو واحتلال العراق، وعن تدمير «اسرائيل» لما بقي من فلسطين، وان تتفق بشكل جماعي، او حتى ثنائي وثلاثي، على وسائل مواجهة هذه التحديات، لكن الواقع الذي نراه ونعرفه لا يشير إلى شيء ملموس من ذلك حتى الآن.

ولذلك تبدو الاستجابة لهذه التحديات المفروضة اميركيا - صهيونيا، فردية على الأرجح، ومعها يبدو ان الولايات المتحدة انفردت بكل دولة عربية على حدة، تمارس على كل منها ضغوطا مختلفة، تتشابه او تختلف، ابتداء من التخويف بالاتهام برعاية الارهاب، والمطالبة، من ثم، باستئصال جذوره وتجفيف منابعه، بتعديلات جذرية في المناهج الدراسية والتعليم الديني، وانتهاء بالتلويح بمصير العراق، بحجة أسلحة الدمار الشامل!

وعلى رغم الصمت العربي الرسمي، او محاولة التظاهر بعدم المبالاة، فإن المؤكد أن زلزالا عربيا يفور في أكثر من عاصمة، يلمس الجميع تداعياته وتوابعه وهزاته المتتالية، من بغداد والمنامة شرقا إلى الرباط ونواكشوط غربا، إذ يبحث الكل بينه وبين نفسه عن اسلوب للخروج من مأزق هذا الضغط الاميركي الرهيب، الذي ولده غزو واحتلال العراق، ودعمه الوجود العسكري والنفوذ السياسي الاقتصادي الاميركي في كل مناحي حياة العرب، التي لم تعد امورها بأيديهم وإنما بأيدي اميركا وتوابعها وخصوصا «اسرائيل» للأسف!

وها هي النتائج تتوالى على الأرض وأمام انظار الجميع من دون مداراة... وما يجري اليوم في فلسطين، ليس كما يتقول المتقولون، تسوية سياسية واقعية تحقق اقامة دولتين اسرائيلية وفلسطينية على الرقعة الارضية الضيقة، وفق ما بشرنا به الرئيس الاميركي بوش.

لكن ما يجري باسم خريطة الطريق، هو إنهاء فعلي للقضية الفلسطينية من أساسها، بعد أن استفردت «اسرائيل» بالشعب الفلسطيني وسلطته الضعيفة الحائرة، فأعملت القتل والذبح والتدمير ووسعت الاحتلال، وأقامت الجدران، وأسقطت حق العودة لتحرم ستة ملايين لاجئ فلسطيني من حقوقهم الشرعية، التي كفلتها لهم كل قرارات الأمم المتحدة، ثم بعد ذلك تتفاوض على خريطة بلا طريق، أو طريق بلا خريطة، في ظل صمت دولي وتلهف عربي رسمي على الانتهاء من هذا الصراع التاريخي بأي ثمن!

لكن فلسطين لن تكون الضحية الوحيدة، طالما ظل هذا الموقف العربي على حاله من التفكك والتخاذل والاستسلام لأول إشارة ضغط اميركي، ذلك أن جميع الدول العربية موضوعة على القائمة الاميركية، الهادفة إلى التغيير المطلوب، وكذلك الى الاختراق وصولا إلى الغزو والاحتلال العسكري المباشر - على غرار العراق - بعد أن اسقط الرئيس بوش مبدأ الاحتواء، وبدأ تطبيق مبدأ توجيه الضربات الوقائية وشن الحرب الاستباقية، وهو مبدأ جاء صريحا في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الاميركي، التي اذيعت رسميا في العام الماضي.

وها هي سورية على سبيل المثال، تدخل في دائرة الضغط الاميركي الاسرائيلي المزدوج، وفوق رأسها قائمة كبيرة من الاتهامات الهادفة إلى الابتزاز، من مساندة منظمات «ارهابية» وفق التعريف الاميركي، وهي منظمات وطنية، مثل حماس والجهاد والجبهة الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين وحزب الله اللبناني، إلى الاتهام بامتلاك وتطوير اسلحة دمار شامل، مرورا بمساندة المقاومة العراقية، وتهريب النفط، واحتلال لبنان، وانتهاك حقوق الانسان!!

والحقيقة أن الاحتلال الاميركي للعراق، واستقواء التطرف الاسرائيلي الحاكم، والتفكك العربي، وضع سورية في مواقف صعبة، لم تعرف مثلها من قبل، وهي تحاول اليوم أن تبحث عن طرق الخروج من أسرها وحصارها الضاغط.

ومن هذه الطرق التي نرى اليوم بعض ملامحها، اجراء اصلاحات داخلية لافتة للنظر، يراها البعض محاولة لاسترضاء واشنطن والاستجابة لمطالبها وضغوطها، ويراها البعض الآخر مناورة واسعة وبرجماتية تجيدها السياسة السورية، بهدف كسب الوقت وتليين الضغط الاميركي، وفي الوقت نفسه، اراحة الشارع السوري المتطلع الى اصلاح جذري، سياسيا واقتصاديا، فرضته التحديات الاقليمية والدولية والمحلية.

يقول السوريون رسميا إن الاصلاحات التي تجري الآن في الداخل، هي تطبيق لما جاء في خطاب القسم للرئيس بشار الأسد، حين ادى اليمين الدستورية قبل ثلاث سنوات بالضبط، وبالتالي هي غير مرتبطة بأي ضغط خارجي.

ويرد الآخرون ان سورية بدأت تدريجيا الاستجابة للضغوط الاميركية، التي سبق ان حملها وزير الخارجية الاميركي الجنرال «باول» إلى دمشق بُعيد سقوط نظام البعث العراقي، في اشارة إلى أن الدور على سورية إن لم ترتدع وتغلق الحدود في وجه القيادات العراقية الهاربة، وتغلق مكاتب المنظمات الفلسطينية، وتوقف مساندتها لحزب الله، وتجلو عن لبنان، وتتوقف عن محاولات تطوير اسلحة للدمار الشامل، وتدخل في مفاوضات مع «اسرائيل»، وتقطع علاقاتها بإيران!!

وبصرف النظر عن هذا التفسير أو ذاك، فإن ما يجري اليوم في سورية لابد ان يلفت النظر ويثير الانتباه... سواء جاء بضغط اميركي، او جاء بدافع سوري داخلي، أو حدث استجابة للتحديات الخطيرة التي جاءت عقب السقوط المروع لنظام البعث في بغداد بأسرع مما تخيل الجميع، وهو نظام كان حليفا ايديولوجيا قديما لحزب البعث الحاكم في دمشق، لكن العلاقات بينهما تراوحت فيما بعد ما بين التوافق والعداء، غير أن سقوط البعث العراقي لابد انه ترك توابع هزاته في دمشق بشكل من الاشكال.

لكن المهم ان قرار سورية الأخير بفك الارتباط العضوي بين الحكومة وأجهزتها، وبين حزب البعث «قائد التطور السياسي والاقتصادي في البلاد» وفق المادة الثالثة من الدستور، أعطى مؤشرات جديدة في اتجاه التغيير، سبقه وتبعه كثير، مثل تخفيف قبضة الدولة على الاعلام والتعامل في العملات الاجنبية، واحتكار المصارف، وإعلان برنامج اصلاح اداري واقتصادي شامل، واطلاق سراح بعض المسجونين السياسيين ورعاة حقوق الانسان، الامر الذي عزز مظاهر التغيير.

لكن الاهم في رأينا، هو: أولا، تسريع الانسحاب العسكري السوري الملحوظ أخيرا من بعض أجزاء لبنان، وثانيا، الموقف المعلن من عدم التدخل في الشئون العراقية مع اغلاق الحدود، وثالثا، تشديد القبضة على مكاتب المنظمات الفلسطينية المستهدفة، مع الاعلان الرسمي بأن سورية لا تعارض خريطة الطريق وتقبل ما يقبله الفلسطينيون.

ونعتقد أن هذه تحولات مهمة في دولة مهمة، قرأت خريطة التحديات والمتغيرات من حولها، وخصوصا في ظل الوجود الاميركي الثقيل على حدودها الشرقية، والاحتلال الصهيوني على حدودها المقابلة، بينما التنسيق العربي غائب إلا قليلا ونادرا.

قد يفهم البعض أن ما يجري في دمشق هو استجابة للضغوط الاميركية، التي بدأت تخفف من لهجتها العدوانية ضد سورية، الأمر الذي ظهر بتأجيل مناقشة قانون «محاسبة سورية» في الكونغرس الاميركي قبل أيام مؤقتا، تشجيعا - ربما - للتطورات الجديدة، واستعدادا للانقضاض الشرس.

لكن المهم أن يفهم الجميع أن الاصلاح والتغيير بدافع ذاتي واستجابة لحاجة وطنية، هو الأبقى والأعمق في كل دولنا العربية، التي تتوقى بالصمت الكسول عن التغيير الحتمي.

خير الكلام: لا ينفع التوقي مما هو واقع

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 326 - الإثنين 28 يوليو 2003م الموافق 29 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً