يتصاعد الحديث في العاصمة الأميركية، وسط الاتهامات الموجهة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش وكبار مساعديه باستخدام معلومات كاذبة لتبرير الحرب على العراق، عن دور وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد من خلال شبكة تجسس استخبارية شكلها في خريف العام الماضي بتقديم معلومات وأمثلة مخيفة، تبدو وكأنها صحيحة، إلى المسئولين في حكومة بوش وإلى الصحافة عن السبب الذي يجعل من الرئيس العراقي صدام حسين تهديدا مباشرا للولايات المتحدة.
وبعد ذلك بستة أشهر وبزيادة الجدل بشأن معالجة حكومة بوش للمعلومات الاستخبارية الخاصة بالحرب على العراق فإن مجموعة رامسفيلد الاستخبارية الصغيرة والسرية داخل البنتاغون أخذت تثير تمحيصا بشأنها، وقد تصبح قريبا موضع تحقيق من الكونغرس لتقرير ما إذا كانت قد تلاعبت بمعلومات استخبارية رئيسية وأضفت عليها طابعا سياسيا وقامت بالتخطيط بصورة خرقاء لمرحلة ما بعد الحرب على العراق.
وما قد يساعد في تسليط ضوء التحقيق على «مجموعة رامسفيلد الاستخبارية» ما قاله مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية «سي آي إيه» جورج تينيت في جلسة الاستماع أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأسبوع الماضي إن معظم المعلومات الاستخبارية المضللة بشأن التهديد العراقي التي قدمت إلى الرئيس الأميركي جورج بوش واستخدمت في خطابه عن حال الاتحاد في يناير/كانون الثاني الماضي كان وراءها «مكتب الخطط الخاصة» الذي أشرف على تشكيله نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز ووكيل وزارة الدفاع للشئون السياسية دوغلاس فيث وعدد آخر من صقور البنتاغون المعنيين بإعادة صوغ المعلومات الاستخبارية التي قدمت إلى مسئولين في البيت الأبيض لإعداد قضية الحرب على العراق من بينهم أبروم شولسكي ومايكل روبين اللذين كانا يعملان باحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى وهو المؤسسة الفكرية للوبي اليهودي - الإسرائيلي بواشنطن. ويضم مكتب الخطط الخاصة 18 شخصا.
وقال العضو الديمقراطي في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأميركي ألين توستشر: «إن ما يدعو إلى القلق هو أنهم كانوا يأخذون أنصاف الحقائق والشائعات وتأكيد بعض المعلومات التي دعمت قضية الحكومة من أجل شن الحرب».
وكانت تسمية البنتاغون لـ «مكتب الخطط الخاصة» تهدف إلى اختبار فريد في نوعه لمجموعة من المسئولين المتطرفين في البنتاغون الذين عملوا خارج قنوات المخابرات العادية. وقد أوجدت هذه المجموعة لأول مرة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول لدعم الحرب على الإرهاب، وكان هدفها اختيار كل المعلومات الاستخبارية عن النشاط الإرهابي والتركيز بصورة خاصة على روابط تنظيم «القاعدة» المختلفة. وركزت هذه المجموعة اهتمامها بصورة خاصة كليا تقريبا في الخريف الماضي على العراق، وكانت تسرب معلومات مخيفة عن نظام حكم الرئيس صدام حسين معتمدة على المعلومات التي يقدمها معارضون عراقيون من المؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي، وهو ما اعترفت به حديثا أيضا الصحافية في «نيويورك تايمز» جوديث ميلر التي قالت إن كل ما كانت تنشره من معلومات وروايات عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة كان مصدرها الجلبي فقط. وإن معظم ما جاء في التقرير الذي قدمه البيت الأبيض إلى الأمم المتحدة يوم خطاب الرئيس بوش في سبتمبر 2002 بعنوان «العراق: عقد من الخداع والتحدي» كان معظمه معلومات نشرتها ميلر في ديسمبر/كانون الثاني 2001 نقلا عن معارض عراقي يدعى عدنان إحسان سعيد الحيدري كان أحضره الجلبي. وعندما يقوم مكتب الخطط الخاصة بإعادة صوغ بعض معلومات الـ «سي آي إيه» الاستخبارية - التي يقال إنه لا يمكن نفيها - بأن العراق يخفي أسلحة دمار شامل قاتلة يتم تقديمها إلى مكتب مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي في البيت الأبيض كوندليزا رايس إذ يتم استخدامها في خطب الرئيس ونائبه ديك تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد. ومن بين تلك المعلومات الاستخبارية المزعومة ما يتعلق بشراء العراق مئات الأطنان من أوكسيد اليورانيوم من النيجر التي اعترف البيت الأبيض حديثا بعدم صحتها وكلفت ولاتزال الرئيس بوش ثمنا سياسيا وتشكيكا في صدقيته.
وهذه النتائج المثيرة للجدل هي التي تغذي الشكوك القائلة إن هذه المجموعة الغامضة المدفوعة بالأيديولوجية تلاعبت بالمعلومات الرئيسية من أجل أن تلائم رغبة البيت الأبيض في شن الحرب على العراق.
ويبحث أعضاء في لجنة الاستخبارات في الكونغرس إمكان دعوة وولفوفيتز لاستجوابه في جلسة استماع في المستقبل القريب نظرا إلى اعتقادهم بأن مكتبي تشيني ورايس يعرفان بأن معلومات مكتب الخطط الخاصة الاستخبارية لا يمكن الاعتماد عليها.
ويقول غريغ ثيلمان الذي أدار التقييمات العسكرية في مكتب الاستخبارات والأبحاث بوزارة الخارجية الأميركية إلى حين تقاعده في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي «إن كل شيء رأيناه منذ الحرب أكد شكوك المخابرات بشأن مصادر معلومات مكتب الخطط الخاصة. وإن الافتراض الوردي بأن العراقيين سيستقبلون القوات (الأميركية) بالورود والأحضان والتأكيد بأنهم يعرفون تماما مكان أسلحة الدمار الشامل أو أن العراق مستعد لاستخدام أسلحة كيماوية وبيولوجية في غضون 45 دقيقة من بدء الحرب هي روايات أثبتت خطأها». وتعتقد مصادر أميركية أن الجدل بشأن مزاعم البيت الأبيض إزاء العراق قد تدفع إلى التركيز على مكتب الخطط الخاصة الذي كان ولايزال يثير المشكلات بين المهنيين في أجهزة الاستخبارات الأميركية طوال العام الماضي. ويشير رئيس قسم مكافحة الإرهاب السابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية فينس كانيستراروا إلى المكتب بصورة سلبية كـ «هدف خفاش».
ومازال ثيلمان غير واضح بشأن سبب تشكيل المكتب الذي يديره مدنيون ويتساءل قائلا: «هل هم لديهم خبرة في ثقافة العراق؟ وهل هم خبراء في الصواريخ؟ هل هم مهندسون نوويون؟ لا يوجد تفسير منطقي لإقامة المكتب باستثناء أنهم أرادوا أشخاصا لكي يجدوا أدلة تدعم أجوبتهم عن الحرب».
وتعكف لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ على عقد جلسات استماع سرية بشأن جمع المعلومات الخاصة بالعراق، كما أن التحقيق الذي يجري في مجلس النواب على رغم مجاله المتواضع سيكون بمثابة نكسة أخرى لحكومة بوش وهي تتعرض لضغط سياسي متزايد لتوضيح المعلومات الاستخبارية التي تم جمعها بشأن العراق وما إذا كان البيت الأبيض قد ضلل الشعب الأميركي بشأن الحاجة إلى شن حرب وقائية لم يسبق لها مثيل.
وكان الرئيس بوش قد دافع الأسبوع الماضي عن استخدام المعلومات الاستخبارية وقال: «إن الشعب الأميركي سيدرك عندما يقال كل شيء ويفعل كل شيء حال إثبات أنه كان لصدام حسين برنامج أسلحة» ولكن قبل الحرب كان البيت الأبيض يصر على أن لدى العراق أسلحة فعلية وليس مجرد برامج. وعلى هذا الأساس كان يتم تصوير العراق بأنه يشكل تهديدا خطرا ومحدقا للولايات المتحدة. ويبدو أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول كان الوحيد من كبار مساعدي بوش الذي كانت لديه شكوك في صحة المعلومات الاستخبارية التي يقدمها مكتب الخطط الخاصة، إذ امتنع عن استخدام بعضها في خطابه أمام مجلس الأمن في الخامس من فبراير/شباط الماضي. وكانت مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» ذكرت في تقرير لها في شهر فبراير الماضي أن معظم المعلومات التي تضمنها خطاب باول كانت من مكتب الخطط الخاصة. ونقلت عنه المجلة قوله: «إنني لن أقرأ هذا، إنه هراء».
وقال العضو الديمقراطي البارز في لجنة الاعتمادات بمجلس النواب الأميركي ديفيد أوبي إن هيئة موظفي اللجنة وجدت أن المعلومات الصحافية عن فشل مكتب الخطط الخاصة في مشاركة بعض معلوماته الاستخبارية مع وكالات الاستخبارات الأميركية المعروفة صحيحة وأنه كان يقدم تلك المعلومات مباشرة إلى البيت الأبيض من دون أن يتم التحقق منها من خلال القنوات الاستخبارية المناسبة.
وقال الخبير الاستخباراتي جون بايك: «إنه قبل عام لم يكن شخص جاد يعتقد بأنه سيكون لنا 150 ألف جندي يقومون بتمشيط العراق ومازالوا غير قادرين على إيجاد الغاز السام».
ووصف بايك مكتب الخطط الخاصة بأنه «غرفة حرب رامسفيلد» وذكر أن المكتب هو وليد أفكار وولفوفيتز ويشرف عليه مباشرة فيث، والثلاثة ينتمون إلى تيار «المحافظين الجدد» في حكومة بوش، إذ كانوا يدعون منذ سنوات وقبل وصولهم إلى السلطة إلى الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. وكان وولفوفيتز قد أبلغ صحيفة «نيويورك تايمز» العام الماضي بأن «هناك ظاهرة في عمل المخابرات هي أن الناس الذين يتابعون فرضيات محددة سيرون حقائق معينة لا يراها آخرون ولا يرون حقائق يراها آخرون».
وان التوتر الراهن في الولايات المتحدة بشأن المخابرات هو ببساطة العودة إلى معركة جرت أثناء الحرب الباردة عندما اتهم المحافظون مثل رامسفيلد وولفوفيتز وفيث المخابرات المركزية الأميركية بالتقليل من أهمية الأخطار العسكرية التي كان يشكلها الاتحاد السوفياتي، وفي أعقاب انهياره تبين أن الـ «سي آي إيه» كانت أكثر دقة في تقديراتها مما كان عليه الصقور. ومنذ هجمات 11 سبتمبر 2001 والحرب ضد ما تسميه واشنطن «الإرهاب»، فإن المعركة الأيديولوجية انتقلت ببساطة إلى المنطقة العربية وجوارها. وإن رغبة البيت الأبيض في العام الماضي في جمع معلومات استخبارية عن العراق أكدها تشيني الذي قام بثلاث زيارات غير عادية إلى حد بعيد لمقر الـ «سي آي إيه» قبل العدوان على العراق، اجتمع خلالها مع المحللين وذكر انه حثهم على التفتيش عن معلومات أفضل عن برامج التسلح النووية العراقية المزعومة. وقال كانسترارو إن تلك الاجتماعات كانت غير مسبوقة موضحا: «أن يذهب نائب الرئيس إلى الـ سي آي إيه ويقص أشرطة بمناسبات ويلقي خطبا فذلك أمر لا غبار عليه ولكن أن يجلس مع محللين ويستعرض المعلومات الاستخبارية فإنني لم اسمع بمثل ذلك قط».
ويذكر أن المتعارف عليه في واشنطن هو أنه إذا كان للسلطة التنفيذية استفسارات استخبارية فإنها تتصل بهيئة موظفي مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. ويقول كانسترارو إنه بالعودة إلى الوراء فإنه من الواضح أن القرار اتخذ خلال شهرين من 11 سبتمبر للتخلص من صدام حسين، ولكن كان يتعين على حكومة بوش أن تجد سببا منطقيا لعمل ذلك. ولذلك أقاموا مجموعة سرية من خلال فيث بدأت تنتج معلومات بشأن العراق أكثر تناغما مع شن الحرب من معلومات الـ «سي آي إيه». وإن من ميزات مكتب الخطط الخاصة هو استخدام معلومات الجلبي وأنصاره من دون أن تجري مراجعتها من مهنيين في الاستخبارات من خارج مكتب الخطط الخاصة، وغالبا ما كان يجري مد الصحافة بهذه المعلومات أيضا ما يساعد على بناء قضية عامة من أجل الحرب». ويبذل كبار المسئولين في البنتاغون المعنيين بمكتب الخطط الخاصة جهودهم لإزالة الشكوك التي تعاظمت بشأن دوره في استخدام ونشر المعلومات الاستخبارية. فقد عقد فيث حديثا مؤتمرا صحافيا شرح فيه أن المكتب فحص علاقات ممكنة بين مجموعات إرهابية وأنه لا علاقة للمكتب بالعراق والبحث عن أسلحة دمار شامل. وقال إن المكتب «ليس مشروعا استخباريا» لكنه مجموعة تنظر في المعلومات الاستخبارية من وجهة نظر مختلفة
العدد 325 - الأحد 27 يوليو 2003م الموافق 28 جمادى الأولى 1424هـ