في مجلسهم العتيد - مجلس «الحكم» الانتقالي - هاجموا الفضائيات العربية بكل ما أوتوا من قوة وفي أعماقهم كانوا يقصدون مهاجمة العرب والمسلمين والانتماء إليهم كـ «خيار» للعراق المستقبلي، أو هكذا يبدو كان شرط تعيينهم من قبل ملك العراق الأميركي بريمر الثالث - كما يسميه الكاتب العراقي الشهير سعدي يوسف باعتبار أن العراق الهاشمي لم يشهد سوى ملكين اثنين فقط.
وما لم يجرأوا على قوله علنا أمام عدسات شاشات التلفزيون يقولونه في مجالسهم الخاصة أو أنه يخرج على لسان من هم أصدق تعبيرا منهم عن الحال المأسوية والمريرة والقاتلة التي وصلت اليها «النخبة» العراقية العراقوية التي كانت يوما «مناضلة»! فيما هي اليوم تنادي بضرب كل قوانين الدنيا بعرض الحائط وكل أعراف ومقررات جنيف وحقوق الانسان مادام ذلك يخدم قضية «الشعب العراقي»! هكذا وبكل صراحة وبالشفافية «البريمرية» المعهودة قالها المدعو كنعان بكية على شاشة إحدى الفضائيات العربية: فلتذهب اعراف وقوانين ومقررات العالم كلها الى الجحيم اذا كانت لا تناسبنا...!». وقبله قالها المدعو اياد جمال الدين ومن على الشاشة العربية نفسها بلغة أكثر تفصيلية: «نريد ونطالب ونلح بالخروج من الجامعة العربية ومن تراث الدولة العربية والاسلامية التي عمرها أكثر من 14 قرنا والتي كان صدام حسين هو رئيسها الشرعي».
اليوم وبعد مرور أقل من شهر على تأسيس ذلك المجلس العتيد - أو مجلس المحكومين كما يسميه الكاتب العراقي سعدي يوسف - ظهر أكثر من صوت عراقي وطني وأصيل يطالب بإلغائه أو تجاوزه أو تجاهله، وفي أحسن الحالات أو أكثرها تفاؤلا لملك العراق بريمر الثالث، توسيعه بما يتناسب وحقيقة الشارع العراقي خارج جدران قصور صدام حسين وحكم البعث السابق.
كل الكتل الجماهيرية الكبرى تعتبر نفسها غير ممثلة في هذا المجلس: «الشارع» البغدادي العريض و«الشارع» البصراوي العريض و«الشارع» النجفي العريض و«الشارع» الموصلي العريض و«الشارع»... وهلم دواليك، بما فيها «الشارع» الكردي العريض، ومن لا يصدق فلينزل من الدبابة الأميركية التي تحصنه من «غضبة» الشارع العراقي ويمشي في الأسواق ويأكل مع الناس ليسمع ويرى ماذا يقول عنه أبناء شعبه!
الآن وبعد مقتل عدي وقصي، وربما قريبا مقتل صدام حسين، سنرى ونسمع جميعا لون وصدى الشارع العراقي الحقيقي على الفضائيات العربية وغير العربية، لأنه عندها، وعندها فقط، سيأتي مصداق القول العربي الشهير «راحت السكرة وجاءت الفكرة». نعم لقد قال الشعب العراقي بالاجماع تقريبا كلمة «لا» كبيرة وكبيرة جدا بشأن النظام السابق حتى أبناء عمومة صدام حسين. لكن «نعم» التي يريدونها، أي «نعم» البديلة لصدام حسين، ليست أبدا ولن تكون في أي يوم من الأيام تلك اللوحة البائسة التي ظهرت على الشاشات العالمية للمجلس العراقي المعين من قبل بريمر الثالث. والزمن هو الحكم على أية حال، أما من يريد أن يكذب على الناس وعلى نفسه لبعض الوقت ويمني النفس بحكاية التعددية في التمثيل وكون المجلس يمثل كل أطياف الشعب العراقي وطوائفه ومذاهبه وأديانه وقومياته فإنه يذكر الشارع العراقي بالنكتة الشهيرة المعروفة ايام الحكم البائد.
يقال إن صدام حسين قرر تشكيل جبهة وطنية عريضة من الأحزاب والتيارات والانتماءات العراقية كافة الى جانب حزبه الحاكم، وان من جملة من صدق الحزب الشيوعي العراقي وفعلا ذهب ليفتتح مكتبا له في أحد شوارع بغداد الرئيسية وصعد أحد المناضلين ليخط لوحة مقر الحزب سلما وكتب «مقر الحزب الشيوعي العراقي» ولكنه وهو ينزل السلم لمح قوة أمنية بعثية متجهة نحوه فرجع وأكمل: «لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي».
هذه هي الحال التمثيلية الحقيقية لأعضاء مجلس الحكم الخمسة والعشرين كما يلمسها الشارع العراقي اليوم بلحمه ودمه وغدا برزقه وعيشه ومستقبله، فأنت تستطيع أن تكتب اسم كل واحد منهم مع شديد الاحترام لبعض أشخاصهم: ممثل الطائفة... التكتل... المذهب أو الحزب... لصاحبه ملك العراق الجديد بريمر الثالث... وبشكل أخص الحزب الشيوعي العراقي.
لا أظن أن أحدا في الشارع العربي أبدى أو يبدي الآن ارتياحا تجاه الموقف العربي أو الاسلامي تجاه المسألة العراقية، فالجميع تقريبا ابدى ويبدي انزعاجه من الموقف العربي والاسلامي الضعيف و... تجاه العراق، لكن هذا شيء والمطالبة بالانسحاب من «الخيار» العربي والاسلامي للعراق شيء آخر تماما، والاستدلال بأن الشارع العراقي قد سحقت وطنيته تماما أو ماتت قوميته الى الأبد ولا يريد أن يسمع أي موقف أو انتماء ايديولوجي بما فيه الانتماء الاسلامي، كما يردد منظرو «البريمرية» العراقية العائدون من المنافي بحماية الدبابات الأميركية، ليس صحيحا. نعم الشارع العراقي محبط مما جرى باسم كل الانتماءات التي سهلت أو تساهلت مع الحاكم البائد، لكنه شارع واع كما اثبت ويثبت يوميا أن من جملة من ساهل أو تساهل مع صدام حسين وزبانيته الأميركيون أنفسهم ثم ان من يستغل أو يساهم في تشويه مذهب أو دين أو قومية أو مقولة ويحاول احتكارها لنفسه وذاته وزبانيته لن يتمكن - مهما طغى - من الاطاحة بالمبادئ الانسانية السامية والا بانتماءات الأمم العريقة والثابتة عبر التاريخ، وما أكثر من حجاج ولى وإلى غير رجعة وبقي العراق عراقا وبقي العرب عربا وبقي المسلمون مسلمين والعبرة لمن يتعلم من دروس التاريخ أن الشجرة التي لا جذور لها لا ثمار لها
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 325 - الأحد 27 يوليو 2003م الموافق 28 جمادى الأولى 1424هـ