مع بداية الحوادث التسعينية، وحين كان للشيخ عبداللطيف المحمود دور بارز في توقيع العريضة المطلبية والوقوف في صف المطالب الشعبية (قبل أن ينسحب لاحقا بصورة دراماتيكية)، سئل المحمود من قبل إحدى المجلات (غير الرسمية) عن سبب تردد عدد كبير من البحرينيين في الانخراط ضمن الحركة المطلبية على رغم أنهم معنيون بالكثير من هذه المطالب، فكان مضمون جوابه: أن المشكلة تكمن في أن غالبية هؤلاء مرهونون بوظائف حكومية، وبالتالي فهم مهددون في أية لحظة في أرزاقهم، وهو ما يجعل الكثيرين يخشون من المشاركة في أي عمل مطلبي لا ترضاه الحكومة.
الكل مازال يتذكر تصريحات المحمود الناقدة للأداء الحكومي وخصوصا على المستوى الإعلامي، ما كلفه الكثير من التوقيفات والتحقيقات الأمنية والفصل من وظيفته في الجامعة، وهو ما كان محل فخر واعتزاز من الشارع البحريني الذي رأى في المحمود حينها رمزا للوحدة الوطنية، حتى قيل في إحدى القصائد الموكبية الشهيرة آنذاك:
ما ضـــرك لو قال الســـــني عمر مــــن بعد أبي بكــــرِ؟
أو شــــــــيعــــــي قــــال بأنــــي قد آمنــــت بــــآل الطــــهرِ
مادام الحـــــق مبادلة والحــــب شــــــــعور بالصـــــدرِ
بالإسلام وبالقومية (المحمود) شقيق (الجمري)
وهي القصيدة التي ذاع صيتها وكانت تتردد على ألسنة الصغار والكبار، حتى تبدل الحال، وحدث ما لم يكن في الحسبان.
ما جرّ إلى هذا الحديث الحركة المستميتة التي يقوم بها أحد النواب (المسرحيين) هذه الأيام لتحشيد ديوان الخدمة المدنية ضد كل من يشارك في المسيرات المطلبية والحركات الشعبية من موظفي القطاع العام، من أجل طردهم من الخدمة أو على الأقل تهديدهم واستخدام الوظيفة الحكومية ورقة ضغط لتهديد الناس في أرزاقهم.
التهديد الوظيفي بديل الحرية النقابية
هذه ليست المرة الأولى التي تتصدر فيها موجة التهديد الوظيفي الساحة البحرينية، إذ شهدت البحرين قبل أشهر ولأكثر من مرة نغمة مشابهة، استعملت فيها الحكومة بلغة مباشرة سلاح «البقاء الوظيفي» المشروط بالصمت إزاء تدني الأوضاع الحقوقية، وإلا «الفُنِش».
في حساب الأعراف والقوانين الدولية من المعيب استخدام الرزق وسيلة للتهديد من أجل التعتيم على منابع الفساد، وإن كنا لا نقر للقوانين ولا الأعراف الدولية وزنا فإننا من جهة أخرى مرغمون على التعامل الإنساني الذي لا تخلو منه تصريحاتنا الرسمية كل يوم مهما اختلفنا سياسيا، وإن كان لا هذا ولا ذاك، فلا يتصور الداعون إلى «تفعيل القرار الحكومي رقم 4 لسنة 2008 والصادر من ديوان الخدمة المدنية والقاضي بفصل كل موظف مسجل في ديوان الخدمة المدنية في حال اشتراكه في مسيرات غير قانونية أو تورطه في أعمال شغب وتخريب» أن مطاطية القانون ستقلل من حجم التفاعل الشعبي مع الحركات الإصلاحية التي يدعمها المشروع الإصلاحي لعاهل البلاد.
في الوقت الذي كان ولا يزال موظفو القطاع العام يتحركون من أجل إتاحة المجال للحرية النقابية التي تضمن تعديل أوضاعهم وتجفيف منابع الفساد الإداري في الكثير من الوزارات والمؤسسات الرسمية، ينبري المحسوبون على برلمان الشعب للمطالبة بتهديد الناس في أرزاقهم من أجل تصفية حساباتهم الطائفية الدفينة باسم محاربة الشغب والإرهاب الذي سكتوا عنه وأغمضوا أبصارهم حين تعلق الأمر بخلية مرتبطة بالقاعدة.
نراهن على عقولكم
انتهت أيام عاشوراء من دون أن تشهد الساحة البحرينية أية انفلاتات أمنية ولا مناكفات سياسية ولا طائفية على رغم نصب عدة أفخاخ على مدى الأيام العشرة، كان الوقوع في شرك أحدها سيحوّل الموسم إلى حلبة لتصفية الحسابات، وهذا ما لم يحدث لعدة أسباب أهمها تغليب منطق العقل في أكثر من منعطف.
أطل هلال عاشوراء هذا العام على وقع ضجيج قضية «متهمي الحجيرة» التي أثارت ومازالت جدلا واسعا على خلفياتها التي مازالت مبهمة، وعلى الزج بالإعلام في قضايا لم يبت فيها القضاء من اجل التشهير بالمتهمين. ثم استهلت الأيام الأولى للموسم ببيانين مسمومين أولهما لكتلة برلمانية كان يفترض بها رجاحة العقل والرأي، والثاني لنائب «مستقل» عن النواب ولكنه ليس مستقلا عن متنفذين يستخدمونه بوقا لأغراضهم الطائفية الدنيئة. بيانان كادا أن يؤججا الساحة ويشحناها بالمهاترات والتجاذبات لولا حكمة العقلاء وتغاضيهم عن الأمر ما فوّت الفرصة على ما أريد من وراء البيانين.
القرار الخجول الذي صدر (وكأن لم يصدر) بإيقاف الخطيب «الفتنة» مؤقتا عن الخطابة يوم الجمعة، وإن جاء لذر الرماد في العيون، إلا أنه لم يمنع البيانات اليومية التي هي أخطر من الخطبة لأنها تجد لها يوميا من يحتضنها وينشرها كاملة على صدر صفحاته الأولى دون حذف السموم التي فيها.
ولم ينتهِ موسم عاشوراء إلا بخبرين متزامنين عن حرق مقر اعتصام اللجنة الأهلية للقرى الأربع في النويدرات وحرق غرف في مسجد كريم أهل البيت (ع) في مدينة حمد، وهما حدثان مثيران جاءا محاولة أخيرة لكسر الحركة الهادئة للموسم التي تميزت هذا العام بمشاريع وحدوية جامعة. وبالعقول الواعية انقطع حبل الفتنة هنا أيضا، فكان موسما مميزا بلا منازعات.
إذا لنعترف لكم أيها الكبار في هذا البلد الحبيب: نحن نراهن على عقولكم دائما في أصعب المنعطفات، فلا تتخلوا عن الساحة، وإلا...
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2320 - الأحد 11 يناير 2009م الموافق 14 محرم 1430هـ