لا أعتقد أن أحدا في طول الوطن العربي وعرضه استنكر الخبر الذي سمعه منذ أيام من القبض على مدير الاستخبارات الأردنية السابق سميح البطيخي الذي هز الاقتصاد الأردني وكاد يبلغه درجة الانهيار، غير أن الاستنكار ربما جاء لهذا التجاوز الكبير الذي بلغت خسارة مصارف الأردن بسببه أكثر من 225 مليون دولار، فلو أن المبلغ كان عشرة أو عشرين مليون دولار لهان الأمر.
فلا أحد يستنكر على سرقات المخابرات واجهزة الأمن لأن هذا أمر مألوف فهم يظنون بقمعهم لهذه الشعوب وتعذيبهم لشرفاء المواطنين من المعارضة انهم يحمون عروش هذه الأنظمة ولولاهم لسقطت وبالتالي فليس من حق أحد محاسبتهم على سرقاتهم، ومن هنا سواء كان المواطن أردنيا أو من أية دولة عربية أخرى يعلم علم اليقين أن قيادات المخابرات وقيادات أجهزة الأمن هم في قمة الفساد ومع ذلك (فهو حلو على قلوب المسئولين في هذه البلدان)، لأنها قيادات لا تتعايش مع مواطنيها من خلال نظام ديمقراطي ومن خلال رقابة شعبية صادقة وشفافية تكشف المتلاعبين في المال العام بتركهم أمر البلاد والعباد في يد عناصر من دون ضمائر ومن خلال إعلان حالة الطوارئ ومن دون سقف أو فترة محددة لتعيث أجهزة الأمن فسادا في الأرض وتعمل ما تريد في المواطنين من تعذيب واعتقالات وخلق إرهاب لا حدود له مقابل أن تطلق أيديهم ليمارسوا ما يريدون وينهبوا ما يريدون، المهم أن يبقى النظام سالما، وتنطلق يد الجهاز التنفيذي في هذه البلدان لتأخذ الجالسين على قمة هرمه من مال وأراض وكومشنات من دون حدود أو من دون محاسبة.
وعندما يبرز أحد العناصر القيادية الحكيمة إن كان الشعب محظوظا كما حدث في بلادنا أن قيض الله لنا قائدا مثله أدرك أن السفينة البحرينية على وشك الغرق فبدأ بإصلاحات بعد أن تم إيصال الدولة إلى مرحلة يكاد اليأس يسيطر على المواطن البحريني من إمكان تصحيح المسار وخصوصا أن التصحيح بحاجة إلى معجزات لأن الفساد وصل إلى كل المسارات غير أن المواطن انتعشت آماله عندما أحس بحماس ملكه الذي يصر على إنجاح تجربته الإصلاحية.
إن خطورة الاعتماد على العسكر وترك الأمور بأيديهم يجعلهم يتمادون في الثقة في أنفسهم ويشعرون أنهم فوق القانون كما حدث للبطيخي فهم يدركون أن هذه الأنظمة تعتمد عليهم في استقرار أنظمتهم من دون أن يدركوا أن كلفة إقامة علاقة المودة والتفاهم مع المواطنين أقل بكثير من كلفة ترك الحبل على الغارب لهذه الفئة من قيادات أجهزة الأمن.
إن كثيرا من الانقلابات والثورات التي قامت في العالم الثالث كان بسبب طغيان هذه الفئة حتى لم يعد للمواطن مزيد من الصبر إلا التضحية ودفع ثمن التغيير مهما كلف ذلك من تضحيات ومن ثمن باهظ.
إن ثورة الشعب العراقي في العام 1991 جاءت نتيجة لبلوغ المخابرات وأجهزة الأمن درجة لم يعد يطيقها المواطن العراقي، وإذا كان النظام العراقي تمكن من إجهاض تلك الانتفاضة لكنها كانت البداية الحقيقية لسقوط نظام صدام، وكان يمكن لهذا النظام من خلال ما يملك من ثروات نفطية وزراعية وعقول علمية خلق دولة يعيش شعبها في مستوى أفضل بكثير ومن خلال ديمقراطية يجعل التفاهم بين الشعب ونظامه ممكنا، لكن صدام آثر أن يكون حاكما مستبدا ويتحكم في الثروة من دون أن يغدق على شعبه حتى أوصل المواطن حدا يرحب بالأميركان لتحريره ولو أن الإدارة الأميركية قد أعدت برنامجا قبل احتلالها العراق وحسنت من أوضاع الشعب العراقي لما واجهت هذه المقاومة ولكان الترحيب بهم أفضل.
إن القيادات العربية وهي تواصل الاعتماد على طاقم من جهاز الأمن لحماية كراسيها ستضع نفسها في النهاية في وضع حرج وتصرف مئات الملايين على أجهزة أمنها ومخابراتها وتسليمهم كل مقدرات الدولة حتى تتحول بلدانهم في النهاية إلى مستعمرات لقيادات هذه الأجهزة، ولا مانع لديها يوما ما أن تتطلع إلى كراسي الحكم كما يحدث في الكثير من الدول الافريقية اليوم.
إن دول الخليج قد من الله عليها بثروات نفطية قادرة على أن تسخرها لشراء ود المواطنين، فلا ينبغي لها أن تحذو حذو بعض الدول العربية الأخرى التي تختلف ظروفها عن ظروف هذه المنطقة، ومن السهل المحافظة على بقاء أسرها الحاكمة على كراسي الحكم ولكن بشرط أن تضع حدا لجشع بعض أفرادها التي لا حدود لجشعها، إن مثل هؤلاء الأفراد الذين ابتلت بهم كثير من الأسر الحاكمة في دول المنطقة هم وراء تخلف هذه البلدان وبلوغ شعوبها درجة الاشتعال، ومن مصلحة هذه الأسر استمرارية علاقة الود بين الشعب وبينها بأن توقف هؤلاء عند حدهم لا من أجل مصلحة الوطن فحسب بل من أجل مصلحة الأسرة نفسها وهناك عناصر يشار إليها بالبنان وهي معروفة في كل دولة خليجية ومن حق شعوب هذه البلدان أن يتم الأخذ بخاطرها وإيقاف هذه الأيدي الطويلة عند حدها وخصوصا أن العالم لم يعد مثل أيام زمان فالتقدم الذي حدث في التكنولوجيا وثورة الاتصالات صارت لا تترك مجالا للتستر على ما يجري.
إن الأردن كان نموذجا واضحا لفساد هذه الأجهزة الأمنية وكثير من البلدان العربية الأخرى تمر بالظروف نفسها وتصحيح مساراتها ليس بالأمر المستحيل لو جعلت على هذه الأجهزة عناصر شريفة تعرف حدود عملها وتملك الضمير الحي، فليس المطلوب من هذه الأجهزة أن يترأسها طاقم من الجلادين والقتلة بل طاقم يؤمن بحماية النظام والوطن ولكن من خلال وعي بأن دور جهاز الأمن خلق جوٍ مناسبٍ يظل المواطن محترما فيه وتحفظ كرامته لا أن يكون سيفا على رقبته ومن الأكثر أهمية هو أن يتم تغيير هذا الطاقم كل بضع سنوات.
ومثل هذه العناصر الواعية المثقفة المخلصة التي يمكن أن تسهر على حفظ النظام والأمن موجودة لكن الشك الدائم في المواطن والاعتقاد بأن الشعب يجب أن يكون دائما في خانة العدو للنظام هو الذي أوصل العلاقات إلى هذا الحد من السوء.
إن تصحيح الغلطات التاريخية التي حدثت في حق هذه الشعوب يمكن أن تتم على رغم أنها بلغت مستويات مخيفة... لكن العمل الجاد والمخلص من قبل القيادات الشابة الجديدة يمكن أن يضع هذه البلدان في مرحلة تاريخية نوعية جديدة تبدأ بوضع حد لقيادة أجهزة الأمن المعطوبة.
نعم لقد أمن شر فعلته الشنعاء التي كادت توصل الأردن إلى مستوى الانهيار الاقتصادي ومع ذلك تم الحكم عليه لثماني سنوات فقط، وقام مدير الاستخبارات الحالي بإلغاء نصف هذه الفترة وكأن هذا الرجل بريء ولا يستحق تلك الفترة بينما نجد وزيرا أو مسئولا كبيرا في إحدى دول جنوب شرق آسيا يتورط في رشوة بما لا يزيد على أربعة آلاف أو خمسة آلاف دولار فيعاقب بالسجن لسنوات طويلة إن لم يعدم.
إن البطيخي الذي تم إلغاء نصف الفترة عنه من قبل الرجل الجديد الذي هو مدير للمخابرات حاليا ينظر إلى المستقبل بنظرة زميله السابق نفسها، فماذا لو كان هو مكانه؟ لهذا فإن تعاطفه معه وصل مستوى ألغى نصف تلك الفترة وهذا يعني أنه مازال الفساد مستمرا، وسيعمل كل من يجلس في قمة أجهزة الأمن والمخابرات العمل نفسه.
أما في اعتقادي أنه لماذا لم يستنكر أحد ما قام به البطيخي من تجاوز مالي وصار حاميها حراميها لأن الجميع يعلم أن هذا هو سلك أجهزة الأمن العربية في مختلف البلدان.
ولهذا تكره أحيانا أن تزور هذه البلدان على رغم جمال طبيعتها وجوها ورخصها، وعلى رغم تلك المميزات التي بها وتذهب للسياحة لبلدان أخرى حتى لا تصاب بالقهر.
أما آن الأوان لوضع حد لتجاوزات أجهزة الأمن العربية وإنهاء زمن تجاوزات البطيخي وزملائه في كل الدول العربية بما فيها دول الخليج؟
العدد 324 - السبت 26 يوليو 2003م الموافق 27 جمادى الأولى 1424هـ