حدثني بصدق حالم عن زوجته التي فارقته للابد، احسست وهو يتحدث اليّ بأن الالم يعتصر روحه وان الدموع جفت في مآقيه وان الكلمات تختنق وتتزاحم معبرة عما يدور في اعماقه من ذكريات وألم... قال لي: ليت النساء يأخذنها قدوة لهن... انها امرأة لا ينساها الرجل. تمر بي السنون بعد فراقها ومازالت تسكن اعماقي ووجداني ومازال اسمها فوق شفتي يذوب عذوبة وحلاوة. كيف أنساها ولم اجد بعد امرأة تماثلها تكون بديلة عنها أو جديرة بمكانها. اين اجد الزوجة الوادعة غير المتبرمة التي تشعر بي وبمن حولي في افراحنا وآلامنا، تتفانى في رعايتي ورعاية اولادي وإدارة بيتي، تدخر الفلس ليوم حاجتي ومحنتي حتى وهي تعد الطعام لا تسرف إنما على قدر حاجتنا يتسع قدرها فهي تعرف كفايتنا منه. وليتها تكتفي بهذا انما تعمل على مساعدتي في تحمل اعباء الحياة بالقيام ببعض الاعمال النسائية التقليدية التي درجت عليها امي وجدتي قبلها. تشاركني بما لديها من دون ورقة أو قلم او شاهد. انها تلك اليد البيضاء النقية المشاركة في العمل المستمر الخلاق. لقد استطاعت بقوة وكفاءة ان تكون كل شيء في حياتي، عشت معها أمانا لم اعرفه قبلها، تغفر إذا اخطأت، تقف معي امام العواصف، تجعلني صامدا في مواجهة المحن والخطوب. سنون طويلة قبلها مرت في حياتي كنت غارقا في نزواتي وأوهامي وكانت الناصح الأمين. ما اذاعت لي سرا، بل غيرت بصبرها وحلمها كل شيء وحولت حياتي كلها إلى اغنية جميلة جعلتها خالدة في حياتي... حقا انها امرأة ليست من هذا الزمان، لم تنظر يوما إلى ما في حوزة غيرها من رغد ومال وسعادة، كانت تصاحبهن وتعيش يومها سعيدة قانعة راضية، سعادتها من سعادتي وفرحتها عند رؤية أولادي فرحين.
وقفت بجانبي على رغم فقري وقلة حيلتي، وقفت تساعدني وتشجعني على تغيير عملي وتجاوز ما يعترضني من عقبات، مؤمنة بموهبتي وقدرتي. كانت رفيقة كفاحي، تشاركني افكاري وتنصحني، توجهني اذا اخطأت الاسلوب، وترسم لي طريق العبور إلى الافضل، وفي الوقت نفسه كانت واحتي الخضراء التي ارتاح فيها من عناء العيش والعمل، نرى بعين واحدة، نتكلم بلسان واحد، ونسمع باذن واحدة حتى غيرت مجرى حياتي وجعلت مستقبلي اكثر اشراقا وثراء... وكبرت وزادت ثروتي فزادت تواضعا وتفانيا. لم تتغير لزيادة في مالي أو لشهرة في اسمي أو لفخامة في قصري، مازالت تلك القنوع الودود، لم يتسرب اليها الغرور ولم تنس ايام فقرها وحاجتها، ايام كانت تحسب اللقمة وتدخر الفلس، وكان الشوق يعصف بها إلى ذلك البيت العتيق في تلك القرية الوادعة المغطاة بالنخيل، حيث البساطة والسذاجة والنقاء... لم تتخل عن واجبها باعتبارها زوجة وأمّا مسئولة عن اسرة كاملة بما لها وما عليها على رغم توافر الخدم من حولها... ما بهرتها الاضواء فضيعت هويتها في زحام المظاهر الخادعة، وما فعلت كغيرها من النساء اللواتي لا يكتفين بالتفاخر بما وصلن اليه ونسيان ما كن فيه، بل يحاولن جاهدات النيل من كرامة من هن اقل مستوى منهن في المال لكنهن يفوقهن في الاصل والنسب.
انها يا سيداتي كلمة وفاء لزوجتي المتفهمة لمشاعري دائما، المدركة لكل ما يدور في داخلي من احاسيس الرفض والقبول. الزوجة التي احسست معها بحلاوة العيش والرضا والتي دفعتني إلى الكفاح والعمل والمثابرة. المرأة التي لن ابدلها بكل نساء العالم... اذا تكلمت تصغي إلى ما اقول، وان غضبت لا تجادلني حتى تهدأ ثورتي. المرأة التي تشعرني بذكاء أكبر وعمق أكثر وتعزز ثقتي بنفسي.
اين انا منها اليوم؟ اين مشاركتي في طموحي واهتماماتي وذكرياتي السعيدة؟ لقد رحلت سريعا وتركتني أحيا بين قضبان ذكرياتها، ابحث في الوجوه عن وجه يماثلها... حتى بناتي لم يعوضني ما حرمني منه رحيلها، ولم اجد امرأة تتوافر فيها هذه السمات التي تعطي أكثر مما تأخذ وتفتح قلبها لأفراحي وأحزاني، والتي اشعر بوجودها في كياني ووجداني حتى اليوم، فهل توافقني بنات جنسها فيما اقول؟
العدد 324 - السبت 26 يوليو 2003م الموافق 27 جمادى الأولى 1424هـ