تضع الحوادث في العراق العقل العربي في حيرة من أمره، وهو القابل في الغالب لقبول نظرية المؤامرة، وهناك توجهان متناقضان لتحليل ما يجري في العراق، من وجهة نظر المتابعين العرب على الأقل، الأول هو أن تسير الأمور في العراق إلى الأفضل، وأن ما يجري من مشاغبات هي من بقايا نزاع الروح للنظام العراقي السابق، تحاول استعادة شيء ما من الإناء المكسور وترميمه، بعد أن أصبح ألف قطعة.
والتوجه الثاني يتحدث عن ( مقاومة) منظمة للشعب العراقي ضد الاحتلال، وأن هذه المقاومة ستزداد عنفا حتى تصبح العراق (فيتنام) أخرى، ترغم المحتلين على ترك البلاد خائبين، وهي نظرية تجد صدى إيجابيا لها عند الكثيرين. بل إن الأيمان بها يفوق عدد من يتوقع استتباب الأمن قريبا في العراق، وتحاول هذه المدرسة من التفكير أن توزع رؤيتها وقناعاها على الفضائيات العربية وأعمدة الصحف، كي تصبح وكأنها حقيقة لا جدال حولها.
ومن جانب المتابعين الأميركان أنفسهم، فان مصادر القلق على أمن الخليج يأتي في نظر كتابهم كما نشرت مجلة «الشئون الدولية» في عددها الأخير من ثلاثة مصادر مهمة، اضطراب كبير في داخل إحدى دول مجلس التعاون، والتوجه الإيراني للحصول على أسلحة دمار شامل، وأخيرا الاضطراب في العراق!
وبعيدا عن التمني والرجم بالغيب يبدو أن النظام العراقي السابق مات ولم يلفظ الروح بعد، وان الاضطراب في العراق مشاهد وملموس، إلا أن أسبابه وحيثياته ومستقبل تطوره هو المطروح للنقاش.
بقاء الروح في الجسد العراقي العليل يأتي من عدد من المصادر هي تاريخ طويل لنظام قمعي، ومن طريقة تحرير هذا البلد من ذاك النظام، وإدارة هذا التحرير، تلك هي مصادر بقاء الروح. فلو افترضنا أن التحرير جاء نتيجة انقلاب تقلدي أو (ثورة) كما تعودنا على التسميات، لخرجت الروح من الجسد بأسرع مما تخرج اليوم، في مثل هذه الحال فان اختفاء القادة السابقين لن يطول، لان هؤلاء الذين يمكنوهم من الاختفاء في المخابئ سيعاقبون من النظام الجديد كما يعاقب المذنبون بقسوة وبلا رحمة، لذلك لن يجرؤ أحد أن يقدم أية معونة ولو إنسانية خوفا من عقاب صارم. أما وقد وجد البعض أن النظام ( الاحتلالي) الجديد يقبض على البعض من أعمدة النظام السابق ليطلقهم من جديد، كما حدث لعدد وافر من رسميين سابقين ، كما أن أولئك الذين قدموا لهم الملجأ المؤقت لم يضاروا، وحتى لم يستجوبوا، فان من يقدم الملجأ اليوم للقيادة العراقية السابقة في مأمن من العقاب من السلطة المحتلة، وهو ما يجعل البعض تعاطفا أو أغراء يقدم المساعدة لكبار أهل النظام السابق ليس بسبب غير أن العقاب لن يكويهم، لذلك فان الرصاصة الفضية على رأس النظام سيطول انتظارها.
بعد تحرير العراق ظهرت كثير من القصص القريبة إلى الخرافة، فبعض من كان يتابعهم النظام على قسوته وجدوا فرصا للاختفاء لفترات زمنية طويلة، كما حدث لأحدهم عندما أخفته والدته لفترة تزيد عن ربع قرن من الزمان، ان كان ذلك ممكنا في ظل نظام حكم يأخذ بالشبهة. فما بالك في ظل سلطة محتلة لا تعرف لغة الناس ولا تأخذ في الغالب بشبهة أو ضغينة. في مثل هذا الظرف سيكون من الممكن أن يبقى كبار رجال النظام العراقي السابق مطلقين في طيات الوطن العراقي الكبير والواسع لفترة قد تطول من الزمن، هذا الإطلاق سيشجع عن قناعة أو عن إحباط بعض الناس للمقاومة على أساس احتمال أن القيادة لا تزال موجودة وربما تعود من جديد، ولذلك فإننا نرى أن الرئيس المخلوع بين فترة وأخرى يقذف بشريط مسجل لوسائل الإعلام المتنافسة يتوعد فيه بالمفردات نفسها ما كان يضخه إعلامه للناس في السابق، وفي مجتمع تعود على الرموز و الشعارات لفترة طويلة من الزمن، فان الرمز هنا مهما للسير في مغبة إزعاج القوات المحتلة وحرفها عن مهماتها التي تريد أن تحقق، وهذا ما يفسر جزئيا انبثاق جيوب مقاومة أصبحت شرائطها وصور الرجال الملثمين فيها تظهر لنا على شاشات التلفزيون، بل أصبح الإعلان عن تشكيل مليشيات مسلحة قيد التسابق في خطب الجمعة.
على الأرض هناك أمور تتحرك لابد من ملاحظتها وهي أن الدولة المحتلة تخضع أدارتها التنفيذية في بلاد الاحتلال (العراق) لأسئلة عميقة في عواصمها، وما هذه الضجة المثارة في كل من لندن وواشنطن عن حقيقة المعلومات التي قدمت للمشرعين هناك عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل إلا إشارات لما يمكن أن يحدث في المستقبل. ومع استمرار تدفق الدم الأميركي والبريطاني فان هذه الأسئلة ستزداد عنفا وعلوا.
حتى كتابة هذه السطور ومن المعلومات المنشورة هناك أكثر من نصف القتلى العسكريين من دول التحالف الذين سقطوا في المعارك المباشرة قد قتلوا بعد إعلان سقوط بغداد، فالأرقام المؤكدة تقول إن ضحايا الحرب التي استمرت 26 يوما كان حوالي 160 قتيلا، ومنذ ذلك الوقت سقط حوالي 75 قتيلا نتيجة شكل من أشكال المقاومة، وأن استمر الحال على هذه الوتيرة فان أسئلة أقوى وبصوت أعلى ستطرح في عواصم هذه الدول من سياسيين طامحين وغاضبن، عن حكمة ما تقوم به هذه القوات ومدى الفائدة منها مقارنة بالخسائر. ومن جانب آخر هناك أموال تصرف قدرتها بعض المصادر بحوالي بليون دولار في الأسبوع الواحد، ما يثير غضب الشارع في تلك العواصم.
تبقى القضية الأكثر أهمية في بقاء أو عدم بقاء قوات الاحتلال وهي ما قد تتطور إليه المعارك الانتخابية في كل من الولايات المتحدة و المملكة المتحدة، والإدارتان تساندان بعضهما بعضا اليوم بعد أن انطلقت تيارات النقد الجارفة بسبب الاخفاقات أعلاه، لتعيد التساؤل من جديد عن حكمة القيادتين الأميركية و البريطانية في الإطاحة بنظام العراق السابق، وما إذا كانت الأسباب الموجبة التي قدمت للمجالس التشريعية في البلدين هي كل الحقائق، أم أن هناك حقائق أخفيت عن الناس.
والموضوع الأخير ليس له علاقة بالقناعة السياسية أكثر مما له علاقة بآليات الديمقراطية كما تطورت في البلدين ومزاج الناخب هناك، أمام استحقاقات نيابية عاجلة لم يبق عليها إلا بضعة اشهر.
لقد جلبت الإدارة الأميركية مع الاحتلال أمراضها البيروقراطية، فالتغيرات التي طرأت في تبديل المسئولين الأميركان والخطوات التي اتخذوها بعد ذلك، مثل حل قطاعات الجيش وتحويل مئات آلاف من العراقيين إلى فضاء بغير يقين، جعلت من هذه القطاعات تميل إلى تذكير بعضها بعضا أن العيش مع الخوف، افضل من الجوع مع الأمن، فالجوع أكثر فضاعة من الخوف.
أمراض الإدارة تمثلت في عدم فهم حقيقي لهيكلية الدولة العراقية، فقد قامت الإدارة المؤقتة بصرف الجيش وأيضا منتسبي وزارة الأعلام، وتركت في الوقت نفسه منتسبي وزارة الثقافة مثلا في مكاتبهم، وأهلها أكثر عتوا في بعثيتهم من الأولى، كما أن قطاعات الجيش ليست كلها محاربة، فهناك قطاعات شبه مدنية مثل القطاع الطبي والميكانيكي وأمثالهما ولم تكن هناك ضرورة قصوى لصرف منتسبيها وحرمانهم من العيش الكريم. لقد اعتقدت الولايات المتحدة أنها ورثت نظاما يمكن إصلاح خلله، فورثت دولة كاملة خللها متعدد ومتداخل، فاصبح لديها كومة من الخيوط لا تعرف من أين تمسك بأطرافها، فلم يعد الشعار الذي أعلنته القوة المحتلة بكسب عقول وقلوب العراقيين ذا معنى، بل لعل التطبيق أفضى إلى عكسه.
أمراض النظام العراقي القديم ما زالت عالقة أيضا في الممارسات بين قطاعات كبيرة في المجتمع العراقي، فلم تتعود هذه القطاعات الشفافية، والقبول بالرأي والرأي الآخر، وفي الوقت نفسه أخذت على عاتقها ديمقراطية تنفيسية أو تفجيرية أن صح التعبير، اذ كل شيء فاسد وكل متصد للشان العام له غرض شخصي، فوجدت سلطة الاحتلال نفسها أمام مستحيلين، الإصلاحات السياسية ضرورة قصوى للاستقرار طويل المدى، ولكنها مسببة لعدم الاستقرار الشديد في المدى القصير، وأخذا بالنفس الديمقراطي الانتخابي القصير في بلادها، فان الضغط سيزداد من أجل الدفع بسرعة لنفض اليد من المشكلة الساخنة، وما ظهر حتى الآن يسير بهذا التوجه من طلب من بعض الدول الاشتراك في (حفظ الأمن في العراق) بما فيها تركيا و الهند وغيرها من الدول. لقد عن الاحتلال نقطة ضعف النظام السابق وسبب هزيمته وهي (ضَعف الروح المعنوية) إلى نقطة قوة، بإشاعة مراكز استقطاب مادية ومعنوية تقوي الروح المعنوية لرجل الشارع العراقي لما يراه من تناقض وضعف همة.
في مثل هذه الأجواء يبقى الغموض المحيط بالملف العراقي مؤثرا في الساحة العربية التي تسمم أجواؤها الإعلامية بالكثير من الإشاعات، وتضع قطاعات واسعة ومحبطة منها اللوم على الخارج وما يحدث منه وفيه. وتفتقر كثير من حكوماتها إلى خطط واضحة لمواجهة وحل الاستحقاقات الداخلية، كي يرتد هذا الإحباط والتقاعس على الساحات العربية إرهابا منظما أو عشوائيا
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 324 - السبت 26 يوليو 2003م الموافق 27 جمادى الأولى 1424هـ