العدد 322 - الخميس 24 يوليو 2003م الموافق 25 جمادى الأولى 1424هـ

قلم تلميذة بريئة يرصد أهوال ستالين وفظاعاته

مراجعة: كامبردج بوك ريفيو 

24 يوليو 2003

«... إنهم قساة، بل إن قسوتهم عاتية في بربريتها، لكن سياستهم كفؤة. فلو لم يرهبونا إلى حد الإذعان منذ الطفولة لانتهت سلطتهم. لقد حولونا إلى عبيد خرس، واستأصلوا من أرواحنا كل نأمة للحرية». لم تكن نينا لوغوفسكايا التي خطّت هذه السطور كاتبة محترفة، وان كانت تتطلع إلى أن تكون كذلك في يوم ما. وقد كان بإمكانها أن تحقق رغبتها لأنها كانت فتاة حساسة وذكية إلى ابعد حد. لكن مشكلتها أنها كانت فتاة حساسة وذكية في موسكو في ثلاثينات القرن الماضي.

عُثر على يوميات نينا من قبل الباحثين في أرشيف دائرة «إن. كي. في. دي» وهي السلف سيئ الصيت لدائرة المخابرات السوفياتية (كي.جي.بي) استخدمت بعض المقاطع من يومياتها، وهي المقاطع التي علمت بالأحمر، لتوجيه تهمة التآمر لقتل ستالين إلى نينا عندما كانت صبية في الرابعة عشرة من العمر العام 1937.

بدأت الحكاية عندما استُدعي والدها إلى موسكو للتحقيق معه في تهمة التورط مع جماعة «معادية للثورة». كان الوالد قد أمضى بعض الوقت في ما يدعى بـ «المنفى الداخلي». وبعد مداهمة شقتهم وتفتيشها تم إلقاء القبض على أفراد الأسرة واحدا إثر آخر. صدرت أحكام مستعجلة على نينا ووالدتها وشقيقتيها بتهمة الانتماء إلى تنظيم معاد للثورة، وتلقت كل منهن حكما لمدة خمسة أعوام للعمل في معسكرات العمل. أقرت نينا التي كانت قاصرا في حينه بـ «الإعداد لعمل إرهابي ضد الرفيق ستالين وزعماء آخرين في الحزب». ولم تتم تبرئتها من التهم المنسوبة اليها إلا العام 1963 ، في عهد خروشيف بعد أن رفض طلبها بالتبرئة مرتين.

تقدم يوميات نينا شهادة مثيرة ومرعبة عن تلك الفترة التي تعتبر من أحلك الفترات التي عرفها التاريخ الروسي. وكان مواطن آخر من الفترة ذاتها قد كتب في يومياته أن العواطف الوحيدة التي كان المرء يحسها في تلك الأيام هي «الغضب، والخوف، والجوع»، ولك أن تتصور زمنا كان الجوع يعتبر فيه «عاطفة» إنسانية... ومع ذلك فان حالة نينا لم تكن أسوأ الحالات التي عرفتها تلك الفترة. فقد كانت أسرة لوغوفسكي الى حين إلقاء القبض على الأب العام 1929 تتمتع بوضع معاشي مريح. إذ كانوا يقطنون في شقة واسعة، وكانت البنات يتلقين دروسا في الغناء والرسم، وكانت ممارسة الرياضة الزامية. كان ذلك في الوقت الذي كان فيه والد نينا مناصرا نشيطا لمذهب لينين في «السياسة الاقتصادية الجديدة»، الذي كان يشجع المبادرات الفردية ضمن الحالة السياسية الشيوعية. كان والد نينا سيرجي رايبين لوغوفسكي ينحدر من أصول فلاحية متواضعة. لكن ذكاءه الخارق مكنه من الحصول على شهادة في الاقتصاد في العقد الأول من القرن العشرين. وكان قبل الثورة الشيوعية العام 1917 عضوا نشيطا في أحد التنظيمات الاشتراكية التي حظرها البلاشفة فيما بعد. ولابد انه كان رجل أعمال مقتدرا جدا لأنه استطاع خلال السنوات الثلاث ما بين 1925 و1928 أن يطور المخبز والدكان الذي كان يمتلكه بالاشتراك مع آخرين إلى شبكة واسعة لتجارة الجملة والإنتاج الجمعي زاد عدد مستخدميها على ثلاثمئة شخص.

ولكن لم يكتب لمذهب «السياسة الاقتصادية الجديدة» أن يعيش طويلا. بل إن الأشخاص الذين ارتبطوا به اعتبروا برجوازيين جددا في نظر الدولة البروليتارية وعوملوا على هذا الأساس. القي القبض على سيرجي رايبين لوغوفسكي وتم نفيه بعد أن رفض تسليم مشروعه إلى «المدراء» البلاشفة العام 1929. وعلى رغم بقاء الأسرة في موسكو بعد نفيه، فإن حياتها أصبحت بائسة جدا. كانوا يجاهدون من اجل توفير لقمة العيش. وكان نظام التوزيع العام في حينه مصمما على اضطهاد الفئات غير البروليتارية بكل طريقة ممكنة. كان الطعام والقماش يوزعان بالبطاقة، وكانت «الطبقات الأخرى» لا تحصل إلا على نصف مقدار البطاقات التي يحصل عليها البروليتاريون. كما كان العمال يتمتعون بأولوية الشراء، ما كان يعني أن «الطبقات الأخرى» كانت تضطر إلى رمي بطاقاتها في نهاية كل شهر حين لم يكن البروليتاريون يتركون لهم شيئا يبتاعونه بتلك البطاقات. كان ذلك هو الموضوع الرئيسي في رسائل أم نينا ليبوف لوغوفسكايا إلى زوجها في المنفى.

«أما بالنسبة الى الطعام، فنحن في وضع سيئ. لا لحمة ولا زبدة، وليس في طاقتنا توفير الحليب». استخدمت هذه الرسائل فيما بعد، إلى جانب يوميات نينا، كـ «أدلة مادية» على موقف أسرة لوغوفسكي «المعادي للسوفيات»، عندما اتهمت الأسرة بالقيام بنشاطات معادية. ولم تكن تلك الاتهامات، في واقع الأمر، مجردة تماما من الصحة. فقد كانت والدة نينا على علاقة وثيقة بأقارب وأصدقاء الاشتراكيين المنفيين من رفاق سيرجي القدامى، وكانت توفر الملجأ لمن يحتاجه.

في يومياتها، تأتي نينا على ذكر مختلف أنواع المتاعب اليومية. لكنها تمر بها على نحو عابر. وتنصب كتاباتها بالدرجة الأولى على مشاعرها. فهي مدركة تماما للفظائع اليومية التي تحيط بها، لكن جل اهتمامها يدور حول مشكلات سنها اليافعة: مثل الفتيان والحفلات، ومن قال هذا ومن رد بذاك. وبالنظر الى الظروف التي تحياها الأسرة فإن نينا ليست منفتحة للحياة، وتعكس يومياتها الكثير من الشكوك الذاتية التي كانت تطاردها. بل إنها فكرت بالانتحار في مرحلة معينة من حياتها، وتحدثت بالأمر مع صديقات لها، وسعت إلى الحصول على مادة سمية قاتلة. ويرد ذكر هذه الأزمات في يومياتها جنبا إلى جنب مع تفاصيل غزلها الصبياني مع الفتيان في مدرستها. ويشكل وصفها المطول لفتيان احلامها مصدرا للمتعة في هذه اليوميات التي تمثل تناقضا مثيرا بين الأسلوب الناضج الذي تكتب به صاحبتها والسلوك الصبياني الذي تتناوله. يحتل الحب موقع الصدارة في يوميات نينا، لكنه لا يمنع عنها حالات الاكتئاب المتكررة التي تسببها لها رتابة الحياة في المجتمع السوفياتي. وهي تبدي تهكما شديدا يليق بالكتاب البالغين حين تتناول النشاطات السوفياتية التقليدية مثل التظاهرات والمسيرات التي تنظم للاحتفال بمختلف المناسبات والأيام التذكارية. أما الموضوع الثالث الذي يطغى على يوميات نينا فهو الكراهية. فهي تكره ستالين بشدة لنفيه لوالدها ولما تتلمسه فيه من ملامح الدكتاتورية حين تأتي على ذكر أنواع من المعاناة العامة مثل المجاعات المتفشية في المحافظات.

لم يكن من الصعب على هيئة الاتهام العثور لدى نينا على دوافع شخصية للرغبة في قتل ستالين. فقد عرضوا الخواطر التي كانت تجول في ذهنها قبل النوم على أنها تخطيط لعمل انتقامي، وابرزوا السطور الآتية من يومياتها كدليل جرمي ضدها: «على مدى بضع ليال انشغلت بالتفكير بقتله... هذا الطاغية، الوغد، اللقيط، معذب روسيا. أقتله! أنتقم لنفسي ولأبي»! كتبت نينا هذه السطور في شهر مارس/ آذار العام 1933 بعد أن رُفض التماس قدمه والدها لحصول على إذن بالبقاء في موسكو، بعد عودته من المنفى. وقد تحتم عليه، على رغم مرضه، أن يغادر منزله لحين عودته إليه لاحقا بشكل غير مشروع.

يبدو أن نينا أدركت بعد حين أن كتاباتها يمكن أن تجر عليها المتاعب، لأنها قامت بشطب عدد من المقاطع بما فيها ذلك المقطع المتعلق برغبتها في قتل ستالين. بعد أن اطلعت والدتها على صفحات من اليوميات في العام 1935، أخبرتها أن بعض المقاطع في يومياتها تكفي لتعريضها وبقية أفراد أسرتها للعقاب. وبناء على ذلك قامت نينا بمراجعة يومياتها وشطب بعض المقاطع منها هنا وهناك. لكن ذلك لم يجنبها العقاب، لأن الـ «إن. كي. في. دي» نجحت في كشف المقاطع المشطوبة، وهي المقاطع التي تظهر في الكتاب وقد أشّرت بخط تحتها. بعد محاكمتهن وإدانتهن وإعلان «صلاحيتهن للقيام بالأشغال الشاقة» من قبل المجلس الطبي للسجن، أرسلت نينا ووالدتها وأختاها إلى السجن في معسكر بسيبيريا ومن ثم إلى المنفى الداخلي. وقد صمدن جميعا للصعوبات التي واجهنها وبقين على قيد الحياة على رغم تلك الصعوبات. أثناء وجودها في المنفى تزوجت نينا من رسام ثم أصبحت هي الاخرى رسامة فيما بعد. لم تصبح نينا كاتبة كما كانت تريد، لكن يومياتها حققت لها تلك الرغبة من حيث لا تدري.

صدرت الترجمة الإنجليزية ليوميات نينا لوغوفسكايا في موسكو عن دار غلاس للنشر تحت عنوان «مذنبة بلا ذنب: يوميات تلميذة سوفياتية». وقد قامت بترجمة الكتاب جوان تيرنبول.

نينا لوغوفسكايا. أريد أن أعيش:

من يوميات تلميذة، 1932 ـ 1937

فورميكا- سي، موسكو، 2003 - 296 صفحة مع الصور

العدد 322 - الخميس 24 يوليو 2003م الموافق 25 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً