يعتبر عمرو بن عبيد بن باب المؤسس الثاني لفرق المعتزلة. وهناك من يعتبره المؤسس الأول، ويقال إن الخلاف الذي نشب بين صديقه و(صهره) واصل بن عطاء والشيخ الحسن البصري بدأ معه قبل ان ينتقل الى ابن عطاء ويعتزل الأخير مسجد الحسن في البصرة.
المهم ان ابن عبيد كان ايضا من أصحاب الحسن البصري ثم خالفه واعتزل حلقته وتبع واصل بن عطاء وقال قوله في صفات الله والقدر وفي المنزلة بين المنزلتين. إلا ان عمرو بن عبيد أضاف على أقوال واصل مجموعة أفكار عرفت بها فرقته وتركزت على تفسيق عمرو أصحاب الجمل (رض) وأصحاب الإمام علي (ع).
هذا التفسيق لم يوافق عليه صاحبه ابن عطاء كما انه أثار العلماء والفقهاء والأئمة والقضاة من مختلف المذاهب لاحقا. فالعلماء والفقهاء اتجهوا وتوافقوا على تكفير من قال بتكفير الفريقين او أحدهما.
شكلت مسألة التفسيق أزمة حقيقية لمدارس الاعتزال في وقت لاحق. فهي بدأت مشكلة صغيرة بين الصديقين إلا انهما تواصلا في الاشتراك في مجموعة أقوال اختصت في مسألة «القدرة» والمنزلة بين المنزلتين، وفي رد شهادة رجلين أحدهما من أصحاب الجمل (رض) والآخر من أصحاب الإمام علي (ع). عمرو وافق واصل على أقواله إلا ان واصلا، كما يقال، رفض الموافقة على قول عمرو في مسألته وهي «تفسيق الفرقتين».
اختلاف الثنائي واصل وعمرو على المسألة الأخيرة أسهم في زيادة تشعيب فرق المعتزلة لاحقا حين افترقت مدارسها الى خطين: خط واصل الذي أيده فيها النظام ومعمر والجاحظ، وخط عمرو الذي تبعه بعض أساتذة المعتزلة وشيوخها. ونسب الى موشب وهاشم الأوقص قولهما عن تيار عمرو «نجت القادة وهلكت الاتباع». فكل من تبع ابن عبيد في قوله كان نصيبه الهلاك.
افتراق «القدريَّة» لاحقا لا يعني ان الثنائي (واصل وعمرو) لم يستمر لأسباب كثيرة منها الصداقة ومنها المصاهرة.
ولد عمرو بن عبيد (بن باب) في السنة 80 هجرية وهي السنة نفسها التي ولد فيها صديقه واصل بن عطاء. ويقول البلخي (من شيوخ المعتزلة) إن عمرو بن باب من سبي كابل (كابول في افغانستان) فقد سبى جده عبدالرحمن بن سمرة ونقل الى المدينة. ويتوافق رأي البلخي مع رأي البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) إذ يؤكد ان جده سبي من كابول.
إلا ان البلخي يختلف مع البغدادي في تحديد القبيلة التي تربى فيها عمرو بن عبيد. البلخي يقول إنه كان مولى لبني عقيل ثم لبني عرارة، بينما البغدادي يقول إن بن باب كان مولى لبني تميم (كتاب الفرق، ص 101 -102).
رواية البغدادي تبدو هي المرجحة لأن ابن النديم أكدها في كتابه (الفهرست)، إذ قال عن ابي عثمان عمرو بن عبيد بن باب إنه «مولى بني العدوية من بني تميم». ويضيف ابن النديم معلومة جديدة هي «ثم من بني حنظلة» (ص 203).
وتبقى رواية بني تميم هي المرجحة لأن الجرجاني ايضا أكدها في كتابه «التعريفات» فقال عن عمرو بن عبيد بن باب البصري إنه «مولى بني تميم»، (ص203). الاختلاف في الراوية لا يلغي ان هناك شبه اتفاق على ان عمرو هو ايضا كصديقه واصل من الموالي.
لقاء عمرو مع واصل (بني تميم وبني مخزوم) شكل نقطة افتراق على رغم الثنائية العقائدية التي جمعتهما. وعلى رغم ان واصل هو المؤسس الأول وعمرو هو المؤسس الثاني يعتبر ابن عبيد هو الأهم والأخطر. فواصل توفي سنة 131 هجرية (عن 51 سنة) بينما عمرو توفي سنة 142 ويقال 144 هجرية (عن 64 سنة). والفارق الزمني بين رحيلهما أعطى فرصة أكبر لابن عبيد بالسفر والاتصال لنشر أفكاره وأقواله.
ولعبت الفسحة الزمنية دورها في السماح لعمر بمشاهدة تداعيات الدولة الأموية واضمحلالها وظهور عصر الدولة العباسية، الأمر الذي افسح له مجال الاتصال بالخليفة العباسي الأول (أبوجعفر المنصور). ويقال نقلا عن ابن النديم (صاحب الفهرست) إنه كان صديقا لأبي جعفر (المنصور) ووعظه «عدة دفعات بكلام مشهور».
الى تأثير عمرو على الخليفة العباسي الأول، نجح ابن عبيد في التأثير على جيل كامل ممن عاصروه في أيامه الأخيرة. فعمرو على رغم تفسيقه الفريقين (أصحاب الجمل وأصحاب علي) عرف عنه الزهد والتقوى. فالجرجاني يقول عنه إنه كان «من رواة الحديث معروفا بالزهد». كذلك يقول عنه ابن النديم فهو «كان مربوعا مشمر بين عينيه إثر السجود».
وكما يبدو ان عمرو بعد ان دخل سن الشيخوخة برز في عصره وجيله وكتب الكثير من المقالات عرف منها: كتاب التفسير (عن الحسن البصري)، وكتاب «العدل والتوحيد» وكتاب «الرد على القدرية». والكتاب الأخير، كما يبدو، كتبه دفعا للاتهامات التي وجهت اليه وإلى صاحبه واصل عن قولهما بالقدرية وتشكيكهما في صفات الله وقدراته وأفعاله.
المهم ان عمرو مات في لحظة تاريخية انتقالية شهد فيها العالم الإسلامي انهيار الخلافة الأموية وظهور الخلافة العباسية، الأمر الذي سيكون له أثره البالغ في مسيرة المعتزلة وانتقالها من الكلام» الى «الفلسفة» ومن القعود عن السياسة الى الاشتغال بالسياسة وصولا الى نجاح فرقها في وقت لاحق في السيطرة على الدولة وفرض مذهبها باعتباره أساسا وحيدا للالتزام العقائدي... وهو موضوع أثار فتنة كبرى في عهود ثلاثة من كبار خلفاء العباسيين.
توفي عمرو في ظروف غامضة وهو في طريقه الى مكة قادما من البصرة في موضع يعرف بمران ودفن هناك في مران (142 أو 144 للهجرة) وصلى عليه الشيخ سليمان بن علي... والأهم، رثاه الخليفة المنصور بقصيدة. وحين يرثي الخليفة العباسي الأول (المشهور بقسوته) شيخ المعتزلة بقصيدة فهذا معناه ان فكر الاعتزال بلغ مرتبة متقدمة في تأثيره على جيل قيض له لاحقا ان يحكم الدولة العباسية كلها.
عرف عن المؤسس الثاني انه مجرد تابع لصديقه المؤسس الأول واصل بن عطاء... إلا ان عمرو بن عبيد هو الأهم في المعنى السياسي - التاريخي لأنه كان له الفضل في نشر أقواله ونقلها الى ابعد مدى وأعلى مرتبة سياسية في عصره. لذلك أطلقت على فرقته تسميات مختلفة فعرفت عند المؤرخين وأصحاب كتب «الملل والنحل» تارة بـ «العمروية» نسبة الى عمرو وطورا بـ «العبيدية» نسبة الى عبيد... وأحيانا كان يقال لها «العَمْريّة». وكما يقول الجرجاني في «التعريفات»: العمروية مثل الواصلية، إلا انهم فسّقوا الفريقين في قضية عثمان وعلي، وهم منسوبون الى عمرو بن عبيد. تابع واصل بن عطاء في القواعد وزاد عليه تعميم التفسيق، (ص 203).
أما ابن النديم (الفهرست) فذكر ان واصل وعمرو على صداقتهما واختلافهما نجحا في التأثير على جيل، وعنهما أخذ «الاعتزال» عثمان بن خالد الطويل «أبوعمرو». والطويل هو استاذ كبار شيوخ المعتزلة من أمثال ابي الهذيل وابي حفص (عمر بن ابي عثمان السمري).
والأهم من الطويل كان الأسواري. فالأسواري (من الأساورة) لقي عمرو بن عبيد وأخذ عنه وكان له معه مناظرات ونسبت اليه الكثير من الأقوال. وفي هذا المعنى يعتبر بعض المؤرخين ان الاسواري هو المؤسس الثالث ويأتي في منزلة أبعد من الطويل وأعلى منه في التراتب الزمني لشيوخ المعتزلة وتتابع مدارسهم الفكرية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 322 - الخميس 24 يوليو 2003م الموافق 25 جمادى الأولى 1424هـ