تتميّز أميركا عن غيرها من الامبراطوريات، بأنها تستفيد من تجاربها، وبأنها قادرة على استيعاب الخسائر، وذلك من دون أن تتأثر الاستراتيجية الكبرى في أهدافها. ويعود هذا الأمر، إلى الوَفرة في الامكانات الأميركية. وقد أطلق على الشعب الأميركي لقب «شعب الوَفرة» People of Plenty. فبعد كل تحوّل جذري في التركيبة العالميّة، أو موازين القوى، كانت أميركا تدرس ما حصل، لتأخذ الدروس والعِبر. هكذا تصرّفت بعد الحرب العالمية الثانية، فيتنام، وفي حرب الخليج الأولى.
بعد الحرب الثانية، اعتمد الرئيس إيزنهاور استراتيجية الرد الشامل على كل اعتداء على أميركا، او على اصدقائها. خلفه الرئيس كينيدي، الذي وعى صعوبة استراتيجية الرد الشامل. ففي حرب فيتنام، لا يمكن بدء حرب نووية. عدّل الرئيس كينيدي استراتيجية الرد الشامل، لتصبح استراتيجية الرد المرن. أي، إنه اعتمد على السلاح النووي، كذلك الأمر على السلاح والقوى التقليدية.
هكذا هي أميركا، لا تتغيّر ولا تتبدل. دخلت العراق عنوة، ازاحت الرئيس صدّام حسين، واحتلت البلاد. كل ذلك، من دون أية شرعية دولية. بدأت عمليات المقاومة ضد القوات الأميركية. نفى الوزير رامسفيلد وجود عمليات مقاومة، وقلّل من اهميتها. لكن الواقع، كذّب إدعاءات الوزير، خصوصا بعد إذاعة شريط للرئيس المخلوع صدام حسين، وتزايد وتيرة العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية. في الوقت نفسه، تسعى أميركا إلى تشكيل تحالف دولي عسكري، يساعدها في فرض الأمن والاستقرار في العراق. كذلك الأمر، هناك أحاديث تدور عن طلب أميركي باتجاه الأمم المتحدة.
اعترف القائد الجديد للقيادة الوسطى، جون ابي زيد، بأن القوات الأميركية تواجه عمليات غرّيّة Guerrilla Warfare. ويبدو هذا الاعتراف، وكأنه مقدّمة للتعامل العسكري مع هذه المقاومة. من هنا ضرورة وضع استراتيجية من قبل أبي زيد، وبسرعة، للقضاء على حرب العصابات، وإلاّ، فإن كل أميركا في ورطة كبيرة.
ماذا يعني هذا السلوك الأميركي؟
يؤكد هذا السلوك ما قاله الزعيم الانجليزي ونستون تشرشل عن السلوك الأميركي، حين قال: «لا تفعل أميركا إلاّ الأمور الصائبة، لكن، بعد أن تجرّب كل البدائل الممكنة».
وفي مقارنة بسيطة مع ما ورد اعلاه، نلاحظ الامور الآتية:
- ان أميركا تنفي وجود المقاومة، وتعود لتعترف بها.
- تتفرد بالذهاب إلى العراق، وتعود لتشكيل تحالف دولي، ومحاولة طلب مساعدة الأمم المتحدة.
- تتحالف مع بريطانيا للحرب على العراق، وتتّكل على الاستخبارات الانجليزية. وتعود لتعترف بأن هناك معلومات خاطئة.
- يذهب وزير خارجيتها إلى أهم منبر دولي يتمثّل بالامم المتحدة. يعرض ما يملكه العراق من أسلحة الدمار الشامل، لأكثر من ساعتين. الامر الذي جعل ذهاب أميركا إلى الحرب، وكأنه خطر جدا في حال قرر العراق استعمال هذه الأسلحة. حتى أن التناقض في موضوع الأسلحة العراقية، كان ظاهرا وجليّا بين كولن باول ودونالد رامسفيلد. فالاول يعظّم في الامم المتحدة الترسانة العراقية، ويصرح الآخر - أي رامسفيلد - بأن الحرب مع صدام لن تستغرق أكثر من أيام معدودة.
- يؤكّد الرئيس بوش في خطاب حال الأمة أن العراق حاول شراء اليورانيوم من النيجر، لاستكمال مشروعه النووي، ويعود بعد ذلك لالقاء اللوم على وكالة الاستخبارات المركزية.
- تذهب أميركا إلى الحرب على العراق بسبب أسلحة الدمار الشامل. يصرح بعد ذلك نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز، بأن اعتماد أميركا على أسلحة الدمار الشامل بوصفه سببا للذهاب إلى الحرب، لم يكن إلا سببا بيروقراطيا اتّفق عليه صانعو القرار في الإدارة الأميركية.
- تقول مستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس، ان ورود موضوع النيجر في خطاب الرئيس بوش، يعود إلى خطأ ارتكبته وكالة الاستخبارات الأميركية. يقول بعد ذلك أحد الشيوخ الأميركيين من لجنة الاستخبارات، وخلال استجواب تينيت، ان تينيت نبّه الإدارة إلى عدم صدقيّة الخبر الوارد في تقريره السرّي، والمتعلّق بالنيجر. لكن أحد المسئولين في الإدارة أصرّ على إدراجه في خطاب الرئيس. وافق تينيت بعد أن نُسبت صحة المضمون إلى الاستخبارات البريطانية.
ماذا تعني كل هذه التناقضات؟
- تعني هذه التناقضات، ان تشرشل كان على حق، وهو الخبير في العقلية الأميركية.
- وتعني أيضا، أن أميركا استعملت أسلحة الدمار الشامل سببا ظاهريا للذهاب إلى الحرب ضد العراق.
- وتعني أنه لا يمكن لأميركا أن تُعلن على الملأ سبب ذهابها إلى قلب العالم العربي، والمتمثل بضرب الاصولية، وكل ما يمت لها بصلة. فقد تصبح حربها، حربا ضد الاسلام، وهذا ما لا تريده. هي تريد أن تبدّل شكل وصورة وعقلية المنطقة. وهذا الامر لا يتم، إلا إذا وجدت فعليا على الأرض. وهي لا تستطيع إعلان هذا الأمر، إلا تحت غطاء تأمين أمنها القومي، المُهدّد من قبل أسلحة الدمار الشامل العراقية. وهذا ما يفسّر ما ذكرناه أعلاه عن تصريح وولفوفيتز.
- وقد يعني أيضا، أن المحافظين الجدد هم بصدد تحقيق اهدافهم، خصوصا في البُعد المتعلّق بأمن «إسرائيل»، وتحت غطاء أسلحة الدمار الشامل العراقية.
- وقد يُظهر هذا التناقض، الخلافات الكبيرة ضمن أعضاء الإدارة الأميركية، وكيف تجرى عملية اتخاذ القرار.
- وأخيرا وليس آخرا، قد يمكن لنا أن نقول إن أميركا تستعمل أسلحة الكذب الشامل. فهل يحق لها؟ ممكن، فهي بلد غني بكل شيء، ويحق لها ما لا يحق لغيرها.
هل يجب التركيز على موضوع النيجر فقط؟
طبعا كلاّ، فخطأ النيجر هو جزء بسيط جدا جدا، من جملة أخطاء كبيرة وكبيرة جدا جدا. ويجب على هذا الخطأ ألا ينسينا الحرب كحرب، وتفرّد أميركا بشكل تام بخوضها، واستهتارها بكل ما قامت عليه القوانين والشرعية الدولية، وتجاوزها للأمم المتحدة، وتصنيفها للعالم بحسب توصيفها الخاص للإرهاب، كما توصيفها لمفهومي الخير والشر.
ما الانعكاسات السلبية على أميركا؟
الجواب قد يكون في تآكل صدقيتها على الصعيد العالمي. فهي، وفي حال كذبت، (وهي كذبت)، لن تكون مقنعة في المستقبل للرأيين الأميركي والعالمي، في حال قرّرت تطبيق استراتيجية الضربات الاستباقية، ضد دولة تعتقد انها تشكّل خطرا على أمنها القومي. تدخل إيران وكوريا الشمالية في هذا التصنيف.
قد يعطي هذا الخطأ، ذريعة ومدخلا للحزب الديمقراطي للعودة إلى الساحة السياسية الأميركية، حتى ولو من ضمن الباب الأمني، بعد أن تعذّر عليه ذلك بعد حادث 11 سبتمبر/أيلول.
هذا في الشقّ الأميركي، فماذا عن الشقّ العراقي؟
على رغم التقارير الاستخبارية الأميركية، التي أكدت وجود أسلحة دمار شامل في العراق. وعلى رغم المحاضرات التي قدّمها باول في الأمم المتحدة. وعلى رغم الانتصار الأميركي السريع ضد الرئيس صدام حسين. وعلى رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الوجود الأميركي العسكري والأمني في العراق (150000 جندي)، لم تعثر القوات الأميركية حتى الآن، على أيّ أثر لأسلحة الدمار الشامل وفي كل تصنيفاتها، النووية والبيولوجية والكيماوية. لم تعثر أميركا، حتى ولو على قذيفة واحدة من هذا النوع. لم تعثر أميركا حتى الآن، وعلى رغم إلقائها القبض على الكثير من العلماء، والقادة العراقيين من الدرجة الاولى، والذين كانوا مقرّبين من النظام العراقي، أو كانوا متورطين في التصنيع غير التقليدي.
ما التفسير لكل هذه الأمور؟
يتفق العالم كله على أن العراق كان يملك أسلحة الدمار الشامل. والإثبات على ذلك، أنه استعملها على الشعب العراقي. كذلك الأمر، عندما دمرت «إسرائيل» مفاعل اوزيراك النووي العام 1981. والأكيد أن العراق كان يملك هذه الأسلحة إبّان حرب الخليج الأولى، وهو لم يستعملها ضد قوات التحالف التي كانت تضمّ بعض العرب المهمّين. ويعود سبب عدم استعماله لهذه الأسلحة إلى حسابات عقلانية بحتة كان قد قام بها الرئيس صدام. فهو أراد استمرار نظامه، وهذا هو الأهم بالنسبة إليه. هذا عدا الرسائل الردعيّة الأميركية، التي كانت توجّه إليه. وهو حتما كان يعرف، أو اعتقد في قرارة ذاته، أن قوات التحالف لن تدخل إلى العاصمة بغداد والإطاحة به.
ويبدو من خلال سير أمور التفتيش على أسلحة الدمار الشامل في العراق من قبل الأمم المتحدة بعد الحرب الأولى عليه، أن العراق لم يعد يملك أي شيء مهم من هذه الأسلحة. لكن التفتيش انقطع عن العراق بعد العام 1998، حين طرد الرئيس صدام حسين المفتشين. ولم يعد العالم، وخصوصا أميركا، يعرف ما يجري بالسرّ في العراق. عادت لجنة التفتيش إلى العراق العام 2002، ولم تجد أي شيء يُذكر. وهذا ما صرّحت به اللجنة من خلال تقاريرها.
إذا، كان العراق يملك أسلحة الدمار الشامل. وبعد التفتيش من قبل الأمم المتحدة، لم تعد هذه الأسلحة موجودة. العالم يصدّق المرجعية الدولية، لكن أميركا مصرة على امتلاك العراق لهذه الأسلحة. وهي مصرة أيضا، على أن هذه الأسلحة تشكّل خطرا على أمنها القومي، وهي تخاف أن تتزاوج هذه الأسلحة مع الإرهاب، وخصوصا المتعلق بالقاعدة. ينكر العراق امتلاك هذه الأسلحة، ويصر على ذلك.
لماذا تصرّف الرئيس صدام حسين بهذه الطريقة؟
نطرح هنا مقاربتين للرد على هذا التساؤل، هما:
- فيما لو كانت هناك أسلحة دمار شامل: لو توافرت هذه الأسلحة للرئيس صدام حسين، كان عليه أن يهدّد بها لمنع الحرب عليه. فلا يمكن لأميركا أن تذهب إلى حرب بهذه السهولة وهي تعرف أن هناك رادعا غير تقليدي، خصوصا وهي لا تتمتع بالشرعية الدولية. وقد يقول البعض، لو أعلن الرئيس صدام امتلاكه لهذه الأسلحة، لكان من السهل على أميركا الحصول على إذن الشرعية الدولية. ويقول البعض الآخر، انه وبعد بدء الحرب عليه، وهي تعتبر حرب وجود بالنسبة إليه، كان من المنطقي والعقلاني أن يستعمل قسما، أو نوعا محدّدا منها. أو كان بإمكانه أن يستعمل هذه الأسلحة في أمكنة خالية من العسكر الأميركي، الهدف منها فقط إظهار الأمر، بهدف الردع، وتعقيد الأمور العملانية على الأميركيين.
- فيما لو لم تكن هناك أسلحة دمار شامل: إذا كان العراق فعلا لا يملك أسلحة دمار شامل، فلماذا ظل الرئيس صدام مصرا على تعقيد مهمة لجان التفتيش، وهي التي ذكرت هذه الأمور في كلّ تقاريرها؟ لماذا لم يسمح لعلمائه بالذهاب إلى خارج العراق كي يتم استجوابهم عن هذه الأسلحة؟ إذا كانت هذه الأسلحة موجودة، ودمرها قبل الحرب عليه، فلماذا لم يستدعِ الخبراء ليشهدوا على ذلك؟ وإذا كان فعلا قد دمرها، فلماذا لم يُعثر على أيّ أثر لأماكن التدمير؟ ولماذا لم يرشح أي شيء حتى الآن، من المعلومات التي حصلت عليها أميركا من العلماء العراقيين الذين تم القبض عليهم؟
هل هناك من تفسيرات مختلفة لهذا الوضع؟
طبعا، فالاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تعتقد أن العراق، لايزال يحتفظ بأسلحته في مكان ما في الصحراء العراقية. فإذا ما كان هذا الأمر صحيحا، فهذا يعني الأمور الآتية:
- أن أميركا في ورطة كبيرة فيما خصّ استخباراتها ضمن العراق، وخصوصا وهي تسيطر عليه. وهي فعلا تفتقر إلى المصادر الموثوق بها في هذا المجال.
- هذا يعني أن أمن جنودها الموجودين في العراق - وهم يعتبرون نخبة عسكرها، والعظيم منهم - في خطر كبير.
وأخيرا وليس آخرا، قد نشهد استعمالا لهذه الأسلحة ضد القوات الأميركية، من قبل المقاومة العراقية في حال احتدم الصراع مستقبلا، وخصوصا أننا عرفنا حتى الآن، أن قائد هذه المقاومة هو الرئيس المخلوع صدام حسين، بعد إذاعة أكثر من شريط صوتي مسجّل له. على كلّ، أسلحة الدمار الشامل العراقية، كانت وستبقى مشروع الرئيس صدام حسين.
بانتظار المزيد من المعلومات، عما جرى ويجري في العراق، وفي ظلّ زيارة بول وولفوفيتز لأرض الرافدين، لانزال نشهد انهمار الكثير من أسلحة الكذب الشامل الأميركية، وذلك في ظل تعجّب شامل لتصرفات الرئيس المخلوع. أميركا مطالبة باستعادة صدقيّتها، والرئيس صدام مطالب بكشف أسراره أمام العرب والتاريخ. وبالانتظار، يمكننا القول إن ما يحق لأميركا، لا يحق لصدام، لأن الواقع لا يعترف إلا بلغة القوة، ومن هنا المأساة
العدد 322 - الخميس 24 يوليو 2003م الموافق 25 جمادى الأولى 1424هـ