تحديد الغاية من وجود السلطة في حياة البشر يعني في الوقت نفسه تحديد المسار الذي من خلال التزامه والحفاظ عليه تكتسب السلطة مشروعية ممارسة مهمات الادارة السياسية أساسا، ومن ثم عني الفكر الفلسفي السياسي في مختلف مراحلة بالبحث عن غاية السلطة السياسية، ومن هذا المنطلق نفسه اختلفت وتباينت آراء الفلاسفة والمفكرين السياسيين.
لكن على رغم وجود هذا الاختلاف الذي سنعنى بييانه بعد قليل فقد اتفقت آراء الجميع على أن الغاية النهائية للسلطة في حياة البشر انما هي تحقيق السعادة في دنياهم فقط، أو دنياهم وآخرتهم معا، وانطلاقا من ذلك تكون الغاية الذاتية للسلطة هي غاية الحياة البشرية نفسها، وقد يكون من الضروري الربط بين هاتين الغايتين حينما نريد أن نتكلم عن الغاية النهائية والكلية لكل افعال الانسان وتصرفاته، وهي ليست إلا السعادة، ولكن كيف يمكن للانسان أن يمارس السلطة ويوجهها بحيث يحصل على هذه السعادة المنشودة بوصفها خيرا مطوبا طلبا ذاتيا لأنه خير محض؟
وقد يواجه السؤال عن غاية السلطة من قبل البعض بمزيد من التشاؤم والقول بأن السلطة مهما بدت مثالية فإنها لا تخدم في النهاية إلا مصالح الفئة المتنفذة، وهم القلة التي تسيطر على الحكم وتدير شئونه، وعلى رغم أن هذه تبدو ملاحظة وجيهة إلا أنها لا تعفينا من ضرورة التفكير الجدي في السؤال المطروح، والذي في ضوء الاجابة عليه سيمكننا نقد أداء السلطة السياسية عبر تقصيرها في تحقيق الغاية المنشودة من وجودها في الاجتماع البشري. وترك هذا السؤال بلا اجابة محددة ودقيقة يعني أننا نفسح المجال أكثر لأن تبقى السلطات السياسية في عالمنا المعاصر بعيدة عن مبدأ المساءلة القانوينة والاخلاقية، عالمنا ولهذه الاسباب فإن إمعان الفكر في غايات السلطة ليس تغيرا فارغا في الاتجاه، بل انه واجب ملح وعملي.
وعلى كل حال يمكننا تحديد ثلاث رؤى رئيسية في تحديد الغاية الأهم للسلطة السياسية في دنيا البشر، بعد الاتفاق على أن السعادة هي الغاية المنشودة بالذات بوصفها الغاية التي من أجلها يعيش الانسان ويحيا ويمارس كل نشاط له في الحياة من أجل ان يظفر بها في يوم من الأيام، وتلك الرؤى الثلاث هي:
الرؤية الأولى: وتمثل الطور الطبيعي والحيواني للسلطة، وبعبارة أخرى الطور الطبيعي والحيواني لوجود الانسان، لأننا قلنا إن غاية السلطة في وجود الانسان لا يمكن أن تنفك عن الغاية من حياته على هذه الأرض، ويرى اصحاب هذه الرؤية أن غاية السلطة أن يكون الناس أغنياء، وهذا الاتجاه يرى ان سعادة الانسان انما تتحقق حينا يحصل على كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه، فوظيفة السلطة إذا ان تعطي للانسان كل ما يريد، وألا تقف حائلا بيئة وبين ما يريد الحصول عليه من ثروات وأموال، لابد أن يستفيد منها ويسعد بها في حياته.
والاشكالية الخطيرة التي يواجهها هذا الاتجاه - وكما حصل فعلا في التجارب التاريخية التي انطلقت منه - أنه ينتهى إلى سيادة رأس المال وتحويل الانسان الى عنصر مادي، وبعبارة أخرى: إلى مجرد شيء من الاشياء. وهذا ما يؤدي الى اشتغال منطق الاستغلال المادي في حياكة وصوغ مختلف العلاقات الاجتماعية بين الناس، وهو ما يفرز في نهاية المطاف استحكام مبدأ الصراع والتقاتل على الثروات كمنطلق لكل أوجه الممارسة السياسية في الدولة والمجتمع.
الرؤية الثانية: وتمثل الطور العقلي والانساني للسلطة، وفي هذا الطور يرى العقلاء من الناس ممن يعلون من قيمة الانسان أن غاية السلطة ان يكون الناس أحرارا، لأن قدرة الانسان على ممارسة افعاله وتصرفاته بحرية هي ما يضفي على هذه الأفعال والتصرفات قيمة اخلاقية يفتقدها السلوك الحيواني الذي لا يبحث عن شيء سوى اللذة والمنفعة الحسية، وهذا الاتجاه يرى ان سعادة الانسان انما تتحقق حينما يكون حرا بلا قيد ولا حد، وعلى هذا الاساس تتحدد الغاية من وجود السلطة بوصفها الكيان الذي يعزز حرية الفرد ويضمن له ممارسة هذه الحرية ضمن ما يشتهيه هو لا من خلال ما يفرضه عليه الآخرون من قيم وأعراف.
والاشكالية المقيتة التي يمكن لهذا الاتجاه أن يفرزها في الواقع العملي أنه يحول الانسان الى وحدة ذاتية منفصلة عن المجموع تهتم بالحرية من حيث ما يحقق لها مصالحها الذاتية فحسب، ولو كان تحقيق تلك المصالح على حساب القيم والضوابط، والتي تمثل في نهاية الأمر أطرا تنظيمية للفعل الانساني الحر، ومن دون هذه الاطر التنظيمية لا مناص من أن يتحول الانسان الى حيوان تفتقد سلوكياته وتصرفاته الغاية العقلائية التي من اجلها يفعل الفعل، لأن قيمة الفعل الانساني وتمايزه عن الفعل الحيواني ليست لكونه صادرا عن ارادة واختيار فحسب، بل لأنه فعل مسئول ومغيى، بمعني أنه لابد أن تكون له غاية يبتغي الوصول اليها، وتحديد هذه الغاية وضرورة وجودها انما يفرضه تمتع الانسان بموهبة العقل التي يفتقدها الحيوان.
الرؤية الثالثة: وهي تمثل الطور الديني والالهي للسلطة، أو بتعبير أدق الفهم الديني لوظيفة السلطة والغاية من وجودها في دنيا البشر، وتقوم هذه الرؤية على أن الغاية من السلطة أن يكون الناس عدولا يلتزمون العدل في كل شئونهم، وهذا الاتجاه يرى ان سعادة الانسان انما تتحقق حينما يستطيع ان يحقق العدل في كل شئونة ودنياه. وهذا الطور مطلوب لأنه مقتضى العدل الذي مفهومه اعطاء كل ذي حق حقه، وعدم تجاوز الحدود بالافراط أو التفريط.
وبطبيعة الحال لا يخلو الطور الديني للسلطة على رغم كونه يرتكز في الأصل على رؤية دينية يفترض ان تكون مقدسة ومنزهة عن رغبات البشر الضيقة من امكانات سوء الاستغلال والتوظيف، ما يستوجب دوام القيام بمهمات الاصلاح، والتي من أجل ان تبقى كذلك دائما لا مناص من وجود الانسان العادل الذي يلتزم العدل في كل شئونه، وإلا وقعت السلطة طورها الديني في اشكالات سابقاتها.
مدار المشروعية في السلطة السياسية في طورها الديني
الأصل في السلطة انها علاقة بين آمر ومأمور، فهي تستلزم الأمر والنهي بالضرورة، وهذا حق هو في الأصل مختص بالله عز وجل بالذات، ولا يكون لغيره أن يمارسه إلا بالعرض وبمقتضي الضرورات العقلية والشرعية، ولذلك احتاج الى جعل وتحديد من قبله تعالى لأنه مالك الملك بالاصالة، وغيره انما يمارس السلطة السياسية (الولاية العامة على الناس) بمقتضي النيابة عنه، لأجل ذلك قال عز شأنه: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب» (آل عمران: 26 - 27).
وفي الآية ربط واضح بين السلطة التكوينية التي له عز وجل على جميع الموجودات وبين الولاية التشريعية (التي هي سلطة الأمر والنهي)، فالولايتان التكوينية والتشريعية من حقوقه وكمالاته الذاتية، ما يعني ان أي مقدار مشروع يناله الانسان منهما لا يمكن ان يكون إلا بمقتضى ما يخوله وما يمكنه صاحب الحق، الذي هو الله تعالى.
واذا ما اضفنا إلى هذا النص القرآني قوله تعالى: «لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز» (الحديد: 25)، فإنه يتضح لنا امران مهمان يشكلان معا نظرية الاسلام في اصل المشروعية السياسية التي لابد ان تحوزها السلطة السياسية كشرط لممارسة الفعل السياسي، وهذان الامران هما:
الامر الأول: ان السلطة بالأصل هي شأن إلهي مختص به سبحانه وتعالى، وانه يفوضها إلى من يشاء، كيف يشاء، وهذا هو المستفاد من قوله المتقدم: «... مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء...».
الامر الثاني: ان غاية بعث الانبياء والرسل وانزال الكتب والميزان انما هو ان يقوم الناس - كل الناس - بالقسط والعدل، كما يفيده قوله تعالى: «... ليقوم الناس بالقسط...».
والنتيجة: أن مشروعية السلطة انما تتأتي من قدرتها على اقامة العدل والقسط، واذا ما عجزت عن ذلك، ولم تتوافر على المؤهلات اللازمة لتحقيق ذلك سقطت مشروعيتها وألغيت بمقتضى العقل والشرع. وحينئذ تتحول السلطة التي تفتقد المشروعية السياسية إلى سيطرة تفتقد القيمة الاخلاقية التي تسمح لها بممارسة مهمات الولاية على الآخرين والتدبير لشئونهم العامة، وهذا ما يفصح عن ان الغاية الاصلية للسلطة قبل كل شيء انما هي تحقيق «العدل والعدالة» في دنيا الانسان.
تحقيق العدل هو الطريق فحسب لتحقيق السعادة
في ضوء مفهوم الدين للسعادة يتبلور العدل كشرط ضروري لتحقيق هذه السعادة، ومن ثم هو التحديد الأكثر دقة لما يتطلبه تحقيق السعادة من الانسان، وفي ضوء ذلك يمكننا القول ان فرضية الاسلام في تحقيق المشروعية السياسية تقوم اساسا على اشتراط العدل بوصفه الضرورة التي لا مناص منها لانجاز متطلبات الوضع الطبيعي والوضع العقلي للانسان، وهما الوضعان اللذان يرتبطان بالطورين الأولين في السلطة (اعني الطور الطبيعي الحيواني والطور العقلي الانساني)، ما يعزز مبدأ مهما في نظرية الاسلام للمشروعية السياسية، وهو عدم الفصل بين متطلبات كل طور والنظر اليها كلها بوصفها مراتب تترقى وتشتد فيها درجة المشروعية السياسية.
ولأجل ذلك يتم اشتراط العدل كغاية للسلطة السياسية بوصفه المدخل الضروري والشرط اللازم لتحقيق رفاهية مادية لا تصادر حق الآخرين في العيش، وهي غاية السلطة أو الدولة في طورها الطبيعي، ولتحقيق حرية لا تنتهي إلى فوضى وتحلل من الضوابط والقيم، وهي غاية السلطة أو الدولة في طورها العقلي، وإدارة الثروة والمادة بحيث لا تؤدي الى ظلم في استخدامهما وتوزيعهما وتداولهما، يتوقف على العدل أولا وبالذات، كما ان إدارة الحرية وتوجيهها ومنع سوء استخدامها بغير حق لا يمكن ان يتحقق أيضا إلا بشرط العدل، ولأجل ذلك كان العدل ضرورة لا مناص منها في إدارة السلطة في كل اطوارها واحوالها، وهي الصورة التي قدمها الاسلام عن متطلبات تحقيق الرفاهية والحرية في دولة الشريعة، إذ يقول تعالى: «وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فاذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فاخذهم العذاب وهم ظالمون» (النحل: 112 - 113).
كذلك قال سبحانه حينما تحدث عن التجربة الاسلامية الجديدة القائمة اساسا على ترسيخ العدل كمبدأ ضروري في الممارسة والمشروعية السياسية، فقال: «وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من ارضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون. وكم اهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في امها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا واهلها ظالمون. وما أو تيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وابقى أفلا تعقلون» (القصص: 57 - 60).
ففي هذين النصين القرآنيين يتم الافصاح عن ترابط جميع عناصر المشروعية في السلطة السياسية، فقيمة الحرية ان تعزز الأمن، وقيمة الثروة ان تلبي احتياجات الانسان، وهذا وذاك لا يجدان قيمتهما الاخلاقية إلا حينما يكونان مؤطرين بإطار العدل، بوصفه الضمانة الوحيدة لنفي الظلم والاستبداد والفوضى التي تصادر الحرية وتنفي الرفاهية كحقين عامين لكل الناس كما ان العدل كذلك.
وهكذا يتحدد «الظلم» بوصفه الصفة المقابلة للعدل التي تستلب من الانسان أية مشروعية في ممارسة السلطة السياسية والقيام بها، لانها على الخلاف تماما من الغاية الاصلية والأولية لممارسة السلطة، وهو ما افصح عنه النصان القرآنيان المتقدمان في قولهما على الترتيب: ... فاخذهم العذاب وهم ظالمون»، «... وما كنا مهلكي القرى إلا واهلها ظالمون».
وهكذا تتعزز النظرية الاسلامية في السلطة والتي ترى ان الاساس في المشروعية السياسية هو «العدل»، وبقية غايات السلطة وان كانت مطلوبة لكن في ضمن تحقق شرط العدل، وليست مطلوبة مطلقا، بخلاف العدل الذي هو مطلوب ذاتا، إذ «بالعدل قامت السموات والأرض»
إقرأ أيضا لـ ""العدد 321 - الأربعاء 23 يوليو 2003م الموافق 24 جمادى الأولى 1424هـ