تصاعدت في الآونة الأخيرة وتيرة العمليات العسكرية الموجهة ضد الاحتلال الأميركي للعراق وازداد عنفها وحدتها ما نتج عنها ارتفاع ملحوظ في مستوى الخسائر البشرية والمادية في الآليات والوسائل القتالية للجيش المحتل، وهذا ناجم عن جملة من الاسباب والعوامل أبرزها حال التخبط والعشوائية وعدم وضوح الرؤية في الفعل والقرار السياسي لدى الجانب الأميركي. وهذا ما اتضح جليا منذ سقوط النظام السابق حتى يومنا هذا بداية بتعيين الحاكم العسكري المدعو جي غارنر في أول الأمر لاظهار الطابع العسكري للحاكم الأجنبي المباشر للعراق، لكن ما لبث ان تم استبداله بحاكم آخر ذي طابع مدني وهو المدعو برايمر وذلك نتيجة الصراعات ما بين جناحي وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين ومن ثم ما شهدناه من ارتجال وتبدل سريع في القرارات وتغيير شبه يومي في الخطط والبرامج السياسية عند هذه الادارة المدنية المحتلة ان كان على صعيد تشكيل الحكومة الوطنية المؤقته الموعودة أو على صعيد ترتيب الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية واصلاحها.
ومن العوامل التي أفرزت هذه العمليات القتالية ضد الوجود الأجنبي هي تلك التجاوزات الأخلاقية والتصرفات الاستفزازية التي تثير المشاعر الوطنية والدينية والتي وصفت في كثير من الاحيان بأنها اعتداءات وانتهاكات لحقوق الانسان للتي صدرت من قبل جنود الاحتلال من قبل انتهاك حرمات البيوت بحجة تفتيشها والتأكيد من خلوها من الاسلحة أو من المطلوبين والمجرمين والجرأة على تفتيش النساء المصونات مباشرة بأيدي الرجال من جيش الغزاة الانجلو أميركية.
تساؤل واستفهام مشروع
لكن السؤال المعروض الذي يفرض نفسه بقوة وهو: ما حقيقة هذه المعارك المسلحة؟ ومن الجهات التي تقف وراءها وتدعمها وتمدها بالمال وبالسلاح؟
هذا التساؤل يطرحه الكثير من أبناء الشعب العراقي أنفسهم قبل غيرهم ما يجعله تساؤلا مشروعا وبالتالي لا يمكن للآخرين من هم خارج دائرة القضية العراقية المزايدة على هذا الموضوع واتهام من يطرح مثل هذا الاستفهام بالخيانة وعدم الوطنية وما شابه!
وقد تعددت النظريات في الاجابة عليه ويمكن حصرها في ثلاثة آراء:
- قسم يميل الى أنها مقاومة شعبية صرفة جاءت نتيجة مثل تلك الاخطاء والتجاوزات من المحتلين - الآنفة الذكر - ما يحتم على الجميع دعمها ومناصرتها، وأول من تبنى هذا الرأي ويدعو اليه بعض وسائل الاعلام العربية المقروءة منها والمتطورة التي تتخذ مواقفها - على عادتها - من منطلقات عاطفية غير مهيئة!
- ورأي آخر يرى أنها تنطلق من تلك الفئات والشرائح الاجتماعية التي تضررت نتيجة زوال النظام وانتقصت مكانتها وخسرت الكثير من مكتسباتها والميزات التي كانت تحصل عليها كونها جزءا من النظام واساس تركيبته وجمهوره وشعبيته وفي هذا الإطار يشمل الحديث معظم أبناء الطائفة السنية التي ينطبق عليها هذا الوصف.
- وأما الاتجاه السائد عند غالبية الجماهير العراقية ان الجهة التي تتحمل مسئولية القيام بهذه النشاطات العسكرية ضد الأميركيين هم أفراد النظام البائد وأتباعه والمنتسبون اليه ممن يسمون بـ «فدائيي صدام» والدلائل والمؤشرات على هذا الرأي كثيرة، أهمها حجم العمليات القتالية ومستوى الأداء والتقنية العسكرية المستخدمة فيها التي لا تنم عن صدورها من قبل أفراد عاديين غير نظاميين قد خبروا وأجادوا فنون المعارك والتكيف مع كل ظروف الحروب ومشكلاتها.
كما أن نوعية الأسلحة الخفيفة والمتوسطة المستعملة فيها مثل قاذفات الدروع والدبابات والصواريخ الصغيرة المحمولة على الاكتاف، كل ذلك يدل على أنها من مخلفات الجيش النظامي السابق التي لايزال يمتلكها أبناء النظام نفسه والتي لا تتوافر عادة عند أفراد غير مؤهلين لها من المقاومة الشعبية.
المقاومة المدنية هي الأجدى
بعد وضوح الصورة وانكشاف الواقع على حقيقته نستطيع حينها ان نتفهم دعوة الكثير من رموز الفئات والطوائف الدينية على اختلاف مشاربها وخصوصا كبار علماء الدين من الطائفة الشيعية - التي تمثل ما لا يقل عن ثلثي سكان العراق - الى تبني سياسة المقاومة المدنية السلمية للغزو الانجلو أميركي وتأكيد انتهاج وممارسة اسلوب العمل السياسي الهادئ إزاء قوة الاحتلال وذلك بعد دراسة دقيقة ومعمقة للوضع الميداني وللحالة العامة التي يعيشها الشعب العراقي - كما جاء ذلك في نصوص بيانات الكثير منهم الصادرة بهذا الشأن - ومن جملة ما يذهبون اليه في شرح خلفية موقفهم هذا الرافض للعنف المسلح واستبداله بالدبلوماسية الهادئة بأن هموم المواطن العراقي العادي والبسيط الذي انهكته سلسلة الحروب المتتالية عبر العقدين الماضيين وسنين القهر والعذاب اللذين لاقاهما على ايدي أزلام النظام المخلوع، وما يعانيه لحد الآن من ألم وفقد وحرمان وافتقاده لأبسط مقومات الأمن الحياتية اللازمة لحفظ نفسه وأفراد عائلته وماله من الاعتداء والسرقة ولربما القتل على أيدي تلك العصابات المنتشرة - التي ساهم العهد المأمون في اطلاق يدها وتقويتها قبل انهياره بفضل ذلك العفو المشهور لسجناء الجريمة - كل ذلك كفيل بان تكون الأولوية في الجهود الوطنية المبذولة والمسعى الأساسي لجميع القوى والجهات السياسية المتصدية والفاعلة في الساحة العراقية هي العمل على تعزيز الوضع الداخلي واصلاح الاوضاع المعيشية والحياتية للانسان العادي قبل كل شيء.
وأخيرا وفي سياق شرح مبررات الموقف من هذه العمليات العنفية الحالية نراهم لا يخفون حقيقة مشاعرهم اتجاهها، اذ يؤكدون أنها لا تخدم في النهاية الا مصلحة الديكتاتورية البائدة وان كانت تؤذي المحتل وتضره بشكل مؤقت وهذا مبعث تخوفهم من امكان عودة هذه الديكتاتورية ورجوعها الى الحكم مرة أخرى متمثلة في شخص الرئيس المخلوع صدام حسين في حال رضوخ الاميركيين وتغيير حساباتهم نتيجة هذه الخسائر المتتالية وبالذات في صفوف جنودهم واضطرارهم بعد ذلك لاتخاذهم القرار بالخروج والانسحاب بشكل مبكر من العراق
العدد 321 - الأربعاء 23 يوليو 2003م الموافق 24 جمادى الأولى 1424هـ