الهدف الرئيسي الذي ترمي إليه زيارة وزير خارجية ألمانيا يوشكا فيشر إلى واشنطن والتي بدأت يوم الاثنين، هو إزالة التوتر الذي يخيم على العلاقات بين برلين وواشنطن. وقد تم تحديد مجموعة من المواعيد التي تساعد في بلوغ هذا الهدف: جلسة مسائية مع ممثلي عدد من مصارف الاستثمار في نيويورك ثم غذاء عمل في واشنطن مع وزير الخارجية الأميركي كولين باول وجلسة مصالحة مع نائب الرئيس بوش ديك تشيني ولقاء مماثل مع مستشارة البيت الأبيض للأمن القومي كونداليزا رايس. هذا ما اتفق عليه موظفو مراسم برلين وواشنطن.
غير أن المحاولة التي يقوم بها فيشر قبل بدء إجازته الصيفية في توسكانا (إيطاليا) ترمي إلى إعادة الأمور إلى نصابها بين ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وهي محاولة توصف بأنها مهمة مستحيلة. يتوقع الأميركيون من فيشر وشرودر وسائر أعضاء الحكومة الألمانية، إبداء التحفظ ففي الوقت الحالي يجري وزن كل كلمة ويتم تسجيل كل انتقاد كأن هناك حالة عداء قائمة بين البلدين.
السبب في ذلك أن الرئيس الأميركي بوش يعاني من ضغط داخل بلده. كل يوم تظهر على الملأ معلومات جديدة تزيد من حرج الرئيس وتقول ان بوش خدع شعبه وحلفاء الولايات المتحدة والرأي العام العالمي واستعان ببيانات ملفقة حين اتهم العراق بامتلاك أسلحة كيماوية وبيولوجية. وقد اضطرت الولايات المتحدة إلى بدء الدفاع عن نفسها لأنه الحرب لم تضع أوزارها بعد ولم يجر التوصل إلى مخبأ صدام حسين وأسلحة الدمار الشامل المزعومة ويتعين على واشنطن أخلاقيا وسياسيا أن تجيب على الأسئلة المطروحة. يعلم الرأي العام العالمي اليوم أن الولايات المتحدة أرادت هذه الحرب وأدارت ظهرها للقوانين الدولية والآن تبين أنها استعانت بمعلومات ملفقة سبق وأن اعتمدت عليها كأدلة لتبرير حربها.
تريد واشنطن مصارحة الضيف القادم من برلين بحاجتها الماسة إلى مساعدة عسكرية في مرحلة حرب المقاومة التي تلت نهاية المعارك الكبيرة. يرغب الأميركيون في أن تسهم الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي بإرسال جنود سلام إلى العراق وقال وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد: إن هدفنا هو مشاركة أكبر عدد ممكن من الجنود الدوليين في مهمة حفظ الأمن والاستقرار في العراق ومن ضمنهم جنود من ألمانيا وفرنسا.
بدأت في العراق حرب ما بعد الحرب والولايات المتحدة بدأت تستغيث. يراقب الأميركيون بألم كيف يسقط جنودهم قتلى كل يوم في البلد الذي ينتشر فيه 148 ألف جندي أميركي و12 ألف جندي بريطاني. ولم يخطر على بال الجنود أنهم سيبقون فترة طويلة في العراق. وتقوم قوات رمزية من بولندا (200 جندي) ومقدونيا وألبانيا وجزر الفيجي بمعاونة الأميركيين في مهمة العراق.
بلغ عدد القتلى في صفوف القوات الأميركية حتى اليوم أكثر من 200 قتيل، 70 منهم سقطوا بعد إعلان نهاية العمليات العسكرية في الأول من مايو/أيار الماضي. وتعين على إدارة الرئيس بوش أن تعترف أنها أساءت تقدير قيمة كلف الحرب والحرب التي تلت الحرب، وبدلا من ملياري دولار تنفق في الشهر يتم استخدام أربعة مليارات من أموال الضرائب التي يسددها الشعب الأميركي.
الآن تريد الولايات المتحدة أن تشارك دول حلف شمال الأطلسي بتحمل أعباء احتلال العراق بما في ذلك احتمال تعرض جنودها لهجمات دامية. والأمر الذي لا ترغب فيه واشنطن في هذه المرحلة، هو تدخل ألمانيا وفرنسا في المناقشات بشأن القضية المحرجة لبوش والمتعلقة بالمعلومات الملفقة عن أسباب الحرب مما يعرض فيشر للحرج. فقد كان فيشر والمستشار شرودر ضد الحرب منذ اللحظة الأولى وكرر شرودر عبارته الشهيرة: لن تشارك ألمانيا في الحرب طالما أنا في موقع المسئولية. وساعد هذا الموقف المستشار شرودر بالفوز بولاية جديدة في الانتخابات العامة التي جرت في سبتمبر/أيلول الماضي أما الآن فإنه يتعين التزام الصمت وبأمر من المستشار. بعد عودته إلى برلين من قمة مجموعة دول الثماني الأخيرة في مدينة إيفيان الفرنسية طلب شرودر من أعضاء حكومته وقف المناقشات عن الحرب كما قال للسفير الأميركي في برلين، دان غوتس: لا تنظر إلى الوراء بعد اليوم.
لكن هذا لم يمنع ظهور موجة غضب عارمة في برلين على أثر الكشف عن ألاعيب الأميركيين واستخدامهم معلومات ملفقة لتبرير حرب العراق. وقالت وزيرة التعاون الاقتصادي والإنماء الاتحادية التابعة للحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم هايدي ماري فيتشوريك تسويل خلال انعقاد مؤتمر استثنائي للحزب في مطلع يونيو/حزيران الماضي: ليس هدف الأميركيين تدمير أسلحة الدمار الشامل في العراق وإنما هدفهم هو السيطرة على منابع النفط في هذا البلد. كما قال لودجر فولمر وزير الدولة السابق للشئون الخارجية التابع لحزب الخضر الذي ينتمي إليه فيشر، بغضب شديد، إن لندن وواشنطن خدعتا الرأي العام العالمي بطريقة مقصودة. وطالب النائب كريستيان شتروبلي من حزب الخضر أن يسمع المسئولين الأميركيين انتقادات لسياسة التضليل.
لكن المؤكد أن فيشر سيلتزم الصمت حيال هذا الأمر بالذات لأن مهمته ترمي إلى تحقيق الانفراج على العلاقات بين ألمانيا والولايات المتحدة ولا يريد التسبب في خلاف جديد مع واشنطن بل سيطلب من الأميركيين أن يكشفوا عما يعتزمون القيام به في الخليج وأفغانستان والشرق الأوسط وإيران وبصورة خاصة في العراق.
ترغب الولايات المتحدة في البدء بأسرع وقت في تدويل عملية إعادة تعمير العراق وعلى غرار المثال الأفغاني وتريد القوة العظمى الوحيدة في العالم ترك الواجبات الصعبة للآخرين. لهذا فإن واشنطن بدأت ترحب بزيارات يقوم بها مسئولون من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وهيئة الأمم المتحدة. وترغب واشنطن على الأكثر بدور عاجل يقوم به حلف شمال الأطلسي في العراق فيما معارضو الحرب في أوروبا وخصوصا في فرنسا وألمانيا يجدون أنه بوسعهم فقط التجاوب مع الرغبة الأميركية تحت مظلة الأمم المتحدة. لا أحد في أوروبا يرغب في الدخول في نزاع جديد مع بوش وقال أحد المراقبين في برلين ان برلين ترغب في الحديث عن المصالح الألمانية على مسرح الدبلوماسية وليس في ساحة السوق.
تبدأ مطالب ألمانيا بإنهاء الاحتلال وتشكيل حكومة عراقية انتقالية شرعية. وحين تطلب هذه الحكومة مساعدة الأمم المتحدة من أجل تحقيق دولة القانون والنظام ثم تطلب الأمم المتحدة رسميا مساعدة دول الناتو، ستبدأ برلين بحث نوع المساعدة التي يمكن أن تقدمها. وحذر بيتر شتروك وزير الدفاع الألماني مسبقا من المبالغة بالتوقعات وأشار إلى الأعباء الثقيلة التي تتحملها القوات المسلحة الألمانية في مهمات حفظ السلام اذ هناك 8500 جندي ألماني يؤدون الخدمة بعيدا عن وطنهم من البلقان إلى أفغانستان وقال شتروك إنه ينبغي عدم تحميل الجيش الألماني أكثر من طاقته.
وغيرت واشنطن لهجتها تجاه برلين في الآونة الأخيرة. وفي العاصمة الأميركية من يعتقد بأنه من مصلحة الولايات المتحدة رأب الصدع مع ألمانيا ودعوة المستشار شرودر لزيارة البيت الأبيض وأول خطوة على هذا الطريق كانت المكالمة الهاتفية التي تمت قبل أيام بين بوش وشرودر جاء فيها قول بوش: يجب أن نبقى على اتصال مع بعضنا بعضنا. إنها أول زيارة يقوم بها وزير خارجية ألمانيا لواشنطن بعد حرب العراق والمؤكد أن الجانب الأميركي سيعمل في إنجاح الزيارة. وفي برلين هناك من يتوقع حصول مصادفة ثانية خلال اجتماع فيشر مع نائب الرئيس الأميركي وإمكان أن يعرج بوش على مكتب نائبه لتبادل أطراف الحديث مع فيشر مثلما فعل بوش مع رولاند كوخ رئيس حكومة ولاية هيسن التابع للحزب المسيحي الديمقراطي واعتبرت برلين لقاء المصادفة بين بوش وكوخ المرشح لمنافسة شرودر على المستشارية في العام 2006 عبارة عن تحدي ويكشف نوايا واشنطن في تغيير النظام في برلين. غير أن المسئولين في الحكومة الألمانية يرغبون من جانبهم بسقوط بوش في انتخابات الرئاسة القادمة في العام 2004 وأن يدفع بذلك ثمن المغامرة العسكرية الباهظة الثمن في العراق ويأمل هؤلاء أن يلقى بوش الصغير المصير نفسه الذي لقيه والده حين خسر الأخير انتخابات الرئاسة أمام خصمه بيل كلينتون بسبب سوء الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة بعد نهاية الجزء الأول من حرب الخليج
العدد 321 - الأربعاء 23 يوليو 2003م الموافق 24 جمادى الأولى 1424هـ