كثر الحديث في السنوات الثلاث الماضية عن موضوع التجنيس، وانقسم المجتمع البحريني إلى ثلاث فئات أساسية واضحة المعالم: أولها الجمعيات النشطة سياسيا، التي غلفت معارضتها المطلقة لسياسة التجنيس بشعارات وطنية تنزع عنها الصبغة الطائفية وتضعها في سياق المطالب الوطنية هادفة من وراء ذلك وحسبما يبدو إلى تعزيز مواقعها في الشارع البحريني، ثانيها الحكومة، التي حاولت ومنذ أن شرعت في سياسة التجنيس أن تحيط الإجراءات بقدر لا محدود من السرية واللجوء إلى المخارج القانونية والتشريعية من أجل تبرير إجراءات التجنيس وإخلاء الذمة كما يبدو، ثالثها المعارضة الصامتة، التي لا يرضيها ما يجري من سياسات التجنيس والإجراءات الأمنية المحيطة بها، لكنها غير مقتنعة بالتجييش السياسي الذي تمارسه المعارضة، وتحبذ - كما عودتنا - الوقوف خارج حلبة الصراعات، متوهمة أنها بذلك تبرئ ذمتها من جهة ولا تصطدم بأي من طرفي الصراع من جهة ثانية.
الطرفان الأساسيان الضالعان في موضوع التجنيس لم نسمع من أي منهما حتى ما نريد أن نسمعه أو أن نقرأه.
فعلى صعيد الحكومة التي تطبق سياسة التجنيس محاطة بجدران من التكتم، وهي الطرف الذي خطا الخطوة الأولى لم تكلف نفسها وتمتلك الشجاعة الكافية حتى الآن كي تخرج على الملأ وبثقة، كي تقول لنا ما الدوافع وراء ما أقدمت عليه.
طبعا، لا يمكن القبول ببعض التصريحات الصحافية المقتضبة، أو المقابلات مع بعض المسئولين الذين يسهبون في العموميات ويتحاشون الحديث المباشر في الموضوع المطروح، موقفا يشفي الغليل في هذا الصدد. لذلك فمن حق المواطن أن يرفع أكثر من علامة استفهام أمام الحكومة حول دوافعها الحقيقية من وراء هذه السياسة، ولعل من أهم هذه الاستفسارات: هل هو الخوف من اختلال التوازن الطائفي القائم حاليا والذي تدور حوله الكثير من التساؤلات؟ أم هو الحرص على ضمان الولاء المطلق في بعض مؤسسات الدولة ذات الطبيعة الحساسة التي تقتضي من وجهة نظر الحكومة تركيبة اجتماعية وطائفية وربما إثنية من نمط معين؟
الحكومة لم تقنعنا حتى الآن بصحة وسلامة ما تقوم به، أو الدوافع التي تبرر تلك السياسة.
على سبيل المثال لا الحصر، تلجأ بعض البلدان إلى تسهيل حصول الأجانب من كفاءات معينة، على الجنسية لسد حاجة السوق، أو خطط التنمية في تلك الدولة لمثل تلك الكفاءات. هذا ما قامت به كندا في مطلع التسعينات من القرن الماضي، عندما سهلت دخول العمال المهرة في البناء والمقاولات إلى البلاد، وسهلت أيضا حصولهم على الجنسية الكندية.
النهج ذاته سارت عليه فرنسا في منتصف الثمانينات، عندما كانت سياستها تطوير البنية التحتية وصناعة البرمجيات في قطاع المعلوماتية. حينها وجدت حملة كفاءات تلك الصناعة من أبناء دول العالم الثالث فرصة ذهبية للسفر إلى فرنسا أولا، والاستقرار فيها لاحقا لمن فضل عدم العودة إلى بلده الأصلي.
العكس تماما شهدناه بعد حوادث 11 سبتمبر/أيلول، إذ اتخذت الدول الغربية إجراءات أمنية مشددة تجاه مواطني دول العالم الإسلامي، وعلى وجه الخصوص منها الدول العربية. حتى شهدنا هجرة عكسية من مواطني تلك البلدان المقيمين في الغرب من جراء المضايقات الأمنية التي تعرضوا لها من دون أي مبرر. بل لقد تأزمت العلاقة بين دول متحالفة مثل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية من جراء ذلك.
بالمقابل، من حق المواطن أيضا أن يواجه المعارضة البحرينية بالأسئلة الآتية: لماذا تحرصون، عند طرق مسألة التجنيس، على التركيز، بل وحصر أنشطتكم على التجييش السياسي المبني أساسا على تهييج الشارع البحريني؟ ليست المعارضة ملامة عندما تولي هذا الموضوع اهتمامها، بل ربما ينبغي أن يكون من صلب اهتماماتها، لكنها حتى الآن لم تكلف نفسها عناء المعالجة الجدية لمثل هذا الموضوع، الذي هو حتى حسب معاييرها في غاية الأهمية.
إن المنطق السليم أو بالأحرى المدخل الصحيح للموضوع هو المدخل الاقتصادي أو المالي، ونقطة الانطلاق الأولى هنا هي ما مدى تلبية الموارد البشرية المجنسة لاحتياجات البلاد وخططها التنموية.
من المنطق أن يكون من يمنح الجنسية مندرجا في خانة القوى البشرية المنتجة التي تحتاجها تلك الخطط كي يصبح المستفيد من الجنسية عنصرا منتجا وليس مستهلكا فقط. بشكل محدد، ما إسهامات من سيحصلون على الجنسية في التنمية المنشودة، وهل يحملون الكفاءات المطلوبة التي تؤهلهم للقيام بذلك الدور المتوخى منهم والذي يبرر اقتصاديا حصولهم على الجنسية أم أن الأمر جاء بشكل عشوائي دون حسبة دقيقة لمثل هذه الأمور؟
النقطة الثانية: ما الكلفة الحقيقية لكل حالة تجنيس، على أن يبدأ احتساب الكلفة بالشخص المجنس ذاته وتنتهي بكلفة عائلته التي من الطبيعي أن تنعم بحقوق الجنسية شأنها شأن أية عائلة بحرينية أخرى؟ هذا يشمل مرافق التعليم المختلفة، والرعاية الصحية، ومشروعات الإسكان ... إلخ. تحديدا كم سيتحمل المواطن البحريني من كلفة مالية لقاء كل شخص يحصل على الجنسية؟
النقطة الثالثة: انعكاس عدد المجنسين على التركيبة السكانية في مملكة البحرين. تحديدا ما معدلات التجنيس مقارنة مع عدد السكان أولا، ونسبة التكاثر السكاني ثانيا؟ في غياب الحصول على أرقام دقيقة وصحيحة ومنشورة علنيا يتحول الدفاع عن سياسة التجنيس أو شجبها إلى مزايدات سياسية مآلها إلهاب الرأي العام دونما سبب أو مبرر أو حتى فائدة.
لقد أشرنا في مطلع الحديث إلى ما يتوقعه المواطن من الحكومة، لكن لا ينبغي إغفال ما نتوخاه بصفتنا مواطنين من الجمعيات النشطة سياسيا والتي أعطت مسألة التجنيس جل اهتمامها في الآونة الأخيرة، لكنها لم تكلف نفسها هي الأخرى مشقة الانكباب على دراسة قيمة مدعمة بالأرقام التي تستقرئ آفاق سياسة التجنيس التي تنفذها الحكومة وتكشف المخاطر وتقترح البدائل.
طبعا؛ لا يمكن للمواطن أن يكتفي ببعض الوثائق التي تؤكد وجود سياسة تجنيس ويقبل بها على أنها الدراسة الجادة المنشودة.
البرلمان وعلى وجه الخصوص اللجنة الاقتصادية فيه ينبغي هو الآخر أن يدلو بدلوه في هذا الشأن. فالمواطن يتطلع إلى رؤية سياسية مدروسة لسياسة التجنيس المطبقة. هذه الدراسة الاقتصادية البرلمانية ليست بديلا لأية مبادرة أخرى من لجنة برلمانية أخرى تجد أن ذلك من صلب اهتماماتها.
لقد عجت وسائل الإعلام المحلية بموضوع التجنيس، ما أربك المواطن الذي ربما وجد لسان حاله يقول: «ما هكذا تورد الإبل»
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 321 - الأربعاء 23 يوليو 2003م الموافق 24 جمادى الأولى 1424هـ