عاند الحظ سريمة موشيشوجيا ووقف في اللحظة المناسبة إلى جانب زوار مقهى في العاصمة الروسية وحصل كل منهم على عمر جديد. القنبلة التي كانت تحملها سريمة في حقيبة الظهر لم تنفجر في الوقت المناسب. وظلت سريمة تضغط بشدة على الزر الأحمر والعرق يتصبب من جبهتها وبدت عليها عصبية واضحة الأمر الذي نبه موظفي الأمن الذين يعملون في حراسة المقهى الليلي الشعبي في وسط موسكو وألقوا القبض على سريمة. لكن هذا الحدث أسفر عن مقتل خبير متفجرات روسي في مقتبل العمر حين حاول نزع صاعق العبوة الناسفة التي انفجرت على حين غرة وقطعته إربا على مرأى من الكاميرا. قبل أربعة أيام وقعت عملية تفجير انتحارية في موسكو خلال مهرجان لموسيقى الروك. والآن تجلس الفتاة الشيشانية سريمة البالغة 22 عاما من العمر في سجن الاحتجاز في موسكو تحكي للمحققين قصتها. إنها قصة شعب يتعرض للإبادة في حرب رمت بأثقالها بصورة خاصة على النساء اللواتي فقدن آبائهن وأزواجهن وأولادهن وكل شيء واصبحن على استعداد للتضحية بأرواحهن انتقاما من القتلة. لقد عادت حرب الشيشان من جديد إلى قلب روسيا بفعل التفجير في مهرجان الروك والمحاولة الفاشلة التي قامت بها سريمة لتفجير أشهر مقهى ليلي على مسافة قريبة من الكرملين. والرسالة الواضحة التي وصلت إلى كبار المسئولين الروس مفادها: إن الحرب البشعة ضد الجمهورية الشيشانية الصغيرة في القوقاز التي تصبو للحصول على استقلالها لم تنته بعد. بل على النقيض من ذلك تماما: أصبحت هذه الحرب أشد خطورة من السابق لأن عدد المقاتلين في مواجهة الجنود الروس قد ازداد بانضمام العنصر النسائي الشيشاني في هذه الحرب. وقد تم تأكيد هذه الظاهرة من خلال المشاركة النسائية في الهجوم المباغت على مسرح بمدينة موسكو خلال شهر أكتوبر/ تشرين الاول الماضي وفي عملية التفجير في مهرجان الروك وفي عمليات انتحارية أخرى تمت على أرض الشيشان. العنصر النسائي أصبح حاضرا في المعركة: فتيات في عمر الورد ونساء يفجرن أنفسهن لهدف جر أكبر عدد ممكن من الروس معهن إلى العالم الآخر.
يكشف هذا التحول مدى التغيير الذي طرأ على المجتمع الشيشاني بفعل الحرب اذ لحق الدمار بالسكان والأرض وكذلك بمجتمع وحضارة الشيشان. إذ من السائد في المجتمع الشيشاني المعروف عن حق بمجتمع الرجال، أن هناك تقاليد وأعراف لا تخضع للنقاش. من بينها عدم تدخل النساء بكل ما يمت للسياسة بصلة. دور الرجل: حماية الأسرة وتأمين الخبز اليومي لها وهو الوحيد الذي يحمل السلاح عندما يشعر بتهديد وتظل النساء بعيدات لا يتدخلن. لكن في الحرب تتكسر القوانين وكذلك التقاليد وفي الشيشان لم تعد هذه الأعراف تلعب أي دور. فقد نفذ صبر النساء وهن يشاهدن كيف يقوم الجنود الروس باختطاف واعتقال وتعذيب وقتل آبائهن وأزواجهن وأشقائهن وأولادهن. وتشير بيانات منظمات حقوق الإنسان إلى أن حرب روسيا في الشيشان كلفت حتى اليوم أكثر من أربعين ألف قتيل وتهجير أكثر من مئة ألف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال. ويستفاد من الدراسات التي أجريت عن نتائج حرب الشيشان أن ثلاثة أرباع النساء الشيشانيات فقدن في هذه الحرب أقارب لهن وأن نصف عددهن فقدن منازلهن ويقول بيتر فراوخ من الفرع الألماني لمنظمة العفو الدولية إن هناك عددا لا يحصى من المواطنات الشيشانيات اللواتي مررن بتجارب قاسية في هذه الحرب.
الأمر الذي لا مجال للشك فيه، أن فتيات ونساء أمثال الأرملة الشابة، سريمة موشيشوجيا، اللواتي شاركن في عمليات انتحارية، ينحدرن من أسر شيشانية راح منها أفراد كثيرون ضحية الحرب. وحقيقة أخرى أنه من السهل أن يقمن هؤلاء النساء المحاربات بالتوغل في العمل الروسي بصورة أسهل بكثير من الرجال وعبور الحواجز الأمنية والتخفي في مناطق تعج بالروس وإخفاء السلاح في ثيابهن وتقول سارة راينكي من الجمعية الألمانية لمناصرة الشعوب المضطهدة: لقد دخل العنصر النسائي الحرب ومعنى هذا أن الحرب الروسية في الشيشان على وشك الدخول في مرحلة حاسمة وفي الوقت نفسه دامية. وتجد راينكي أن العنف والاضطهاد في الشيشان وعدم التوصل إلى حل سياسي لنزاع الشيشان أدى إلى هذا التطور الخطير. أنه تحول جديد بالنسبة إلى الروس وبالنسبة إلى الشيشان أيضا. فالتقاليد الإسلامية في الشيشان تنهى عن قتل الأبرياء لكن طالما القوات الروسية تمعن في إلحاق الدمار والتقتيل على أرض الشيشان وسط صمت دولي مطبق فإن روسيا نفسها السبب في ظهور قادة شبان أمثال شاميا باساييف الذين هم على أتم استعداد للتضحية وبكل ما يملكونه. حمام الدم سيستمر طالما ظلت روسيا تغض عينها عن الواقع وتمعن في سياسة التحريض عبر وسائل الإعلام وتشيع معلومات خاطئة عن القنابل الحية وتقول ان الشابات اللواتي نفذن عمليات التفجير كن تحت وطأة مواد مخدرة ولا عجب أن تصدر مثل هذه الدعاية عن مصادر عليا في الكرملين. بعد سماعه نبأ التفجير في مهرجان الروك وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المقاتلين الشيشان بأنهم حفنة من إرهابيين دوليين ينبغي إخراجهم من مخابئهم وأينما كانوا والقضاء عليهم. هل هذه هي سياسة بوتين تجاه الشيشان التي لا تولد غير العنف؟ الواضح أن بوتين لا يريد معرفة شيء عن السلام على رغم أن عدد الجنود الروس الذين سقطوا منذ بدء الحرب حتى اليوم زاد عن خمسة عشر ألف جندي. ردت موسكو على التفجيرات الأخيرة بحملة اعتقالات وتقتيل ما دفع المجلس الأوروبي في ستراسبورغ إلى اتهام روسيا بممارسة التعذيب ضد المواطنين الشيشان
العدد 320 - الثلثاء 22 يوليو 2003م الموافق 23 جمادى الأولى 1424هـ