العائد من لبنان قبل الانتخابات النيابية كالعائد من هذا البلد الصغير والجميل بعد الانتخابات. فالقبل كالبعد في ميزان الحسابات السياسية وكأن الانتخابات مجرد مشهد مسرحي يقام كل أربع سنوات تقوم الطوائف والمذاهب والعشائر والمناطق بتمثيله لإظهار وجودها من دون احترام للمعادلة التي تنتجها الصناديق.
الولاء السياسي في لبنان لايزال للعشيرة والقبيلة والمنطقة والطائفة والمذهب وليس للصندوق. وأوراق الاقتراع مجرد شاهد على لعبة درامية لا وزن لها في جغرافية مفتوحة على تجاذبات إقليمية وفضاءات دولية. الصناديق جزء من «ديكور» المشهد المسرحي وهي لا تقدم ولا تؤخر في إطار مساحة مكشوفة على توازنات تتحكم آليات الشارع في ترسيم خطوط تماسها بين دائرة وأخرى.
هذا الوضع الفوضوي الذي يعيشه لبنان بعد الانتهاء من فرز الأصوات وفوز لوائح 14 أذار في المعركة الانتخابية يعطي صورة موجزة عن ذاك الفراغ السياسي الذي يحيط بالمجلس النيابي ومقر الحكومة. فالحكومة معطلة وتقوم بتصريف الأعمال بانتظار البديل. والبرلمان الجديد لم يعقد سوى جلسة انتخاب رئيسه والنواب يتفسحون ويتسامرون حتى تنجلي الغبار عن أسماء الوزراء وتوزيع الحقائب على الكتل.
تقاعد النواب الجدد في منازلهم ليس غريبا في بلد تتساكن فيه التعارضات وتتعايش في بيئته الثقافية سلسلة حلقات من العصبيات التي لم تتطور حتى الآن لتصل إلى اكتشاف الدولة. فهذا البلد المتقدم على أصعدة مختلفة متخلف في نموه السياسي بحكم تسلط وعي القبيلة والطائفة والعشيرة والمذهب على ولاء الدولة. ولأن الدولة مجرد مشروع تطمح شريحة من المثقفين إلى توليده ستبقى الولاءات الموروثة والعصبيات الضيقة تقود الشارع إلى اتجاهات متخالفة يصعب توحيدها تحت مظلة نظام يعتمد المحاصصة والمقايضة ولا يحترم هوية المواطنة.
صورة لبنان المأسوية ليست فريدة من نوعها في بلدان العالم الثالث. فهذا العالم النامي لايزال يمر تاريخيا في طور ما قبل الدولة. والمجتمعات التي تتحرك خارج إطار الدولة متشابهة دائما في عصبياتها الضيقة، فهي تنتج من تضاعيفها ولاءات صغيرة تتنافس على المكاسب الجزئية من دون اكتراث للمخاطر وتلك الارتدادات الأهلية المتوالدة في الكيان السياسي. ما يميّز لبنان عن غيره أنه البلد الوحيد تقريبا الذي يعترف بأزمته ولا يخجل بكشفها من دون حياء. وبسبب هذه الصراحة غير المعهودة في المنطقة العربية أو الإسلامية اكتسب لبنان خبرة في تنظيم التعارضات أعطت جماعاته الأهلية خصوصيات مرغوبة وأحيانا مطلوبة من شعوب مجاورة أو بعيدة تحسده على هذه النعمة «الديمقراطية» حتى لو أطلقت في لحظات التوتر شرارات نقمة.
تساكن النعمة والنقمة هو نتاج فوضى تعايش الطوائف والمذاهب والعشائر والمناطق يطلق عليها ديمقراطية واقتصاد سوق ونظام محاصصة وتداول سلطة. وكل هذا التساكن يمكن مشاهدة تعارضاته ببساطة ومن دون جهد ومن خلال مراقبة يومية للمسرح اللبناني. العملة (النقد) مثلا تعطي فكرة عن مدى قلة اهتمام «الدولة» بسمعتها الاقتصادية والمالية. فالقطع النقدية فوضوية في الطباعة والأحجام ونوعية الورق أو الحبر المستخدم في إنتاج أوراق المال. كل ورقة تختلف عن الأخرى في صغرها أو كبرها حتى لو كانت تنتمي إلى الفئة نفسها ولكن الأمور في النهاية «ماشية» وتداولها يحتاج إلى عادة يومية حتى يمكن التعرف عليها.
نظام المرور لا يختلف في «فوضويته» عن النظام النقدي. والازدحام اليومي في الطرقات ليس بالضرورة هو نتاج انعدام النظام وإنما بسبب عدم معرفة المواطن بوجود نظام للمرور. فالمواطن نال رخصة القيادة من ابن عمه أو ابن خاله أو جاره أو صديقه وليس من مدرسة مكلفة بتدريب الناس على السياقة (السواقة) كما هو حال كل بلدان العالم. وعدم احترام القانون والإشارات الضوئية والخطوط البيضاء والصفراء مرده إلى عدم علم المواطن بمعاني وألغاز نظام المرور.
فوضى النقد تعطي فكرة عن صورة السلطة. وفوضى السير تعطي فكرة عن صورة الناس. كذلك فوضى البناء (العمران) التي تجتاح البلد الأخضر من جباله إلى سواحله ترسم علامات عن مسار التكاثر السكاني في بيئة مهددة بالتلوث والحروب والتدخلات الإقليمية والاعتداءات الإسرائيلية.
تساكن الفوضى أنتج خبرة في تنظيم التعارضات والتخفيف من تصادماتها ما أعطى حيوية للنمو التضخمي في أسعار العقارات والمنازل والشقق وتلك المشروعات الإنشائية في الربوع والنواحي. فالأسعار في هذا القطاع الضروري لا تخضع للاقتصاد المحلي أو دورة السوق وإنما هي كالسياسة محكومة بقنوات مالية إقليمية تضخ النقد إلى البلد الصغير بحثا عن مأوى أو ملجأ أو موقع قدم أو هربا من المحاسبة في دولة المنشأ.
تهريب الأموال يشبه كثيرا تهريب المخدرات، فهو يتسلل إلى السوق من خارج قنوات المصارف ويتم تصريف النقد وتحويله إلى عقارات وشقق ومنازل ما أدى إلى رفع الأسعار إلى مستويات قياسية تضاهي أرقى أحياء في العواصم والمدن الأوروبية. وهذا النمو التضخمي المضاد لقوانين السوق ودورة الإنتاج وحجم الاقتصاد المحلي يعطي فرصة لمجموعات النهابين والنصابين والطفيليات بأن تعبث بأموال المودعين والمساكين والبسطاء وتتلاعب بحقوقهم ومستقبلهم من دون حسيب أو رقيب.
حتى الإفلاسات في البلد الفوضوي لا تخضع للملاحقة لأن المؤسسات التي تقوم بتلك المهمات السيئة غير مسجلة في دوائر الدولة كما تقتضي الأمور التنظيمية وإنما هي اكتسبت شرعيتها من عصبيات الشارع وتلك الولاءات المتوارثة من المحسوبيات الضيقة.
لبنان بلد الطوائف والدولة فيه تعترف بالطوائف (نظام محاصصة) ولكن الطوائف لا تعترف بالدولة. وبسبب هذا الفراغ الدستوري (العرفي) تأسست هيئات في المناطق وداخل المذاهب تقوم بمهمات التريبة والصحة والمال والدفاع وتصريف المال والأعمال بعيدا عن دولة لم تتأسس بعد في حياة المواطن وأنماط معاشه.
كل هذا التساكن في التعارضات يطلق عليه «الفوضى الجميلة» وهي فوضى تعطي السلطة ذاك الزخم للصمود في فضاء من الفراغات السياسية بعد الانتخابات النيابية. فالحكومة مستقيلة منذ خمسة أشهر وتصرف الأعمال من دون مشكلات بنيوية. والحكومة الجديدة تنتظر التشكيل وليس مهما إذا عرفت النور غدا أو بعد أسبوع أو شهر فالأمور سائرة كما هو حال نظام المرور. والبرلمان موقوف والشعب لا يكترث كثيرا لبطالة النواب عن العمل باعتبار أن الولاء السياسي في النهاية ليس للصندوق وما ينتجه من أكثريات وأقليات.
هكذا تستمر بلاد الأرز في النمو والتضخم والتقدم المتوازي مع مخاطر الانفجار والتمزق والتبعثر والتهديد بالاعتداءات وزعزعة الأمن والاستقرار. إنه نظام فوضى... والفوضى أسست قانون تساكن التعارضات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2616 - الثلثاء 03 نوفمبر 2009م الموافق 16 ذي القعدة 1430هـ
عبد علي عباس البصري(صباح الخير )
صباح الخير ياغائبا عنا سنين*** ففي الفؤاد زفره وفي المآقي حسره وانين . ياغائبا عناسنين عدت وليدا كمالك الحزين *** ففي ضلوعك ابيات من صبرى ومن جزين. هذه لبنان ارض الصبر ....وارض الارز.... وارض الياسمين***هذا القضاء على بلاد العرب ان تحيى وتأفل في الانين. الف تحيه لكاتبنا ومعلمناالعزيز وليد نويهض والف سلام .