أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مرسوما رئاسيا بعقد الانتخابات في يناير/ كانون الثاني. وقد تبع ذلك قراره بالتوقيع على الخطة المصرية للتسوية بين الفلسطينيين، وهو على قناعة بأن حماس ترفض التوقيع.
يُثبِت عباس بذلك قيادة حاسمة. قام بعد عشرين سنة بعقد مؤتمر فتح الذي خاف حتى ياسر عرفات من أن يشظّي الحركة ويدمّر النضال من أجل التحرير الوطني. انتهى المؤتمر بوحدة نسبية وراء عباس. وباستثناء الفضيحة (من وجهة النظر الفلسطينية) بسحب تقرير غولدستون لفترة وجيزة من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، تحلّق شعبية عباس أعلى من شعبية أية شخصية فلسطينية أخرى.
ليس عباس رجل الشعب، فهو يفتقر إلى الشعبية والكاريزماتية، ولا يتصرف جيدا في الشارع إذ لا يجيد إثارة الشعب لصالحه، وهو لا يحب الذهاب إلى القرى ومقابلة الناس العاديين، ولا يسعى لمناسبات أخذ الصور التي يخرج معظم السياسيين عن برامجهم لإيجادها. وهو لا يحب أن يقابله أحد بل يكره المقابلات، ويشعر براحة أكبر داخل «المقاطعة» في رام الله. أخبرني قريب له مرة أنه يقضي فترة فراغه يشاهد برامج عن الطبيعة من إعداد مؤسسة ناشيونال جيوغرافيك.
يحب الإسرائيليون والسياسيون والصحافيون ومحللو الشرق الأوسط أن يصرّحوا بأن عباس ضعيف، ويقولون إنه يفتقر إلى السيطرة خارج حدود مقر رئاسته. وهم يذكرون كبرهان أنه فقد غزة لصالح حماس. أما النتيجة التي يتوصّلون إليها فهي أنهم مازالوا يفتقدون شريكا للسلام على الجانب الفلسطيني.
ناقش هؤلاء الناس أنفسهم أنه لم يكن عندنا في الواقع شريك. وهم يتذمرون أن عرفات لعب لعبة ثنائية في صنع السلام من ناحية و»الإرهاب» من الناحية الأخرى (وهو المجاز الذي استخدمه عرفات نفسه والمتمثّل بغصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى). قالوا إنه لن يكون هناك سلام حتى يقود الفلسطينيين رجل سياسة وليس قادة ثوريون.
عباس رجل سياسة، إلا أن القادة الإسرائيليين أمثال آرييل شارون وصفوه بِـ «الدجاجة المنتوفة»، إشارة إلى النتيجة التي توصلوا إليها بأنه لن يطير، ولن يحصل على دعم الشعب.
رفض شارون، مع هذا الوصف المهين، التفاوض مع عباس، وبدلا من ذلك قام بعملية الفصل من جانب واحد، وهي العملية التي ساعدت على تمكين حماس لتدّعي أنها أخرجت “إسرائيل” من غزة، وقامت بإذكاء نار المشاعر المعادية لـ ”إسرائيل” والتي أدّت إلى الانتخابات الفلسطينية.
محمود عباس قائد، وقائد قوي، وهو مستمر في إثبات ذلك من خلال أعماله وأقواله. إنه قائد كرّس نفسه لقيادة شعبه لإنشاء الدولة والتحرير والسلام. لقد عارض عسكرة الانتفاضة الثانية وصرّح بشجاعة سياسية كبيرة أثناء حملته الانتخابية الأولى للرئاسة في ديسمبر/ كانون الأول 2004: «من المهم الحفاظ على الثورة بعيدا عن السلاح، لأن الثورة حق شرعي للشعب يعبّر بها عن رفض الاحتلال بالأساليب الشعبية والاجتماعية. إن استخدام السلاح يعود علينا بالأذى والضرر ويجب أن يتوقف».
في الثامن من فبراير/ شباط 2008، أي بعد أقل من شهر من انتخابه بعد وفاة عرفات، تكلّم عباس عن «الالتزام ببنود عملية السلام المرجعية، وقرارات الشرعية الدولية والاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة “إسرائيل” وخريطة الطريق. وأنا أؤكد على توقنا لتحقيق وتطبيق جميع التزاماتنا. لن نألو أي جهد محتمل لحماية هذه الفرصة الجديدة من أجل السلام، الذي أصبح محتملا من خلال ما نعلن عنه هذا اليوم».
وقد صرّح في أنابوليس في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 قائلا: «أقول لمواطني إسرائيل في هذا اليوم غير العادي، أنتم جيراننا على قطعة الأرض الصغيرة هذه. لا أحد منا أو منكم يستجدي السلام من الآخر. السلام مصلحة مشتركة لنا ولكم. السلام والحرية حق لنا، تماما كما هو السلام والأمن حق لكم ولنا».
كما صرح مؤخرا في الأمم المتحدة يوم 22 سبتمبر/ أيلول الماضي، «أود أن أؤكد لكم ما يلي: سوف تلتزم أية حكومة فلسطينية مستقبلية بالالتزامات السابقة لمنظمة التحرير الفلسطينية والجمعية الوطنية الفلسطينية من حيث اتفاقياتها وخاصة رسائل الاعتراف المتبادل المؤرخة 9 سبتمبر 1993، بين الشخصيتين العظيمتين ياسر عرفات وإسحاق رابين. تحتوي هاتان الرسالتان على اعتراف متبادل بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتشجبان العنف وتتبنّيان المفاوضات كوسيلة لتحقيق حل دائم يرتكز على إنشاء دولة مستقلة لتحقيق حل دائم يعتمد على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة “إسرائيل”.
لقد طبّق عباس جميع التزامات خريطة الطريق المطلوبة من الفلسطينيين تقريبا (لم تطبق “إسرائيل” أيا من التزاماتها). قام عباس بدمج قوات الأمن ووضعها تحت السلطة الكاملة للقوى السياسية التي يسيطر عليها هو ورئيس وزرائه سلام فياض. قام بطرد مئات الضباط الذين قاموا بعسكرة الانتفاضة. لقد عمل يدا بيد مع الجنرال الأميركي كيث ديتون في تدريب ونشر جيل من الكادر الأمني الشاب. لقد أعاد إرساء قواعد القانون والنظام في الضفة الغربية.
كذلك قام بتفكيك البنية الأساسية لحماس والجهاد الإسلامي عبر الضفة الغربية، وأغلق مؤسسات حماس والجهاد الإسلامي وجمعياتها الخيرية ومدارسها وخلاياها الإرهابية. لقد استبدل أئمة المساجد من حماس والجهاد في كافة أنحاء الضفة الغربية، وأزال التحريض الصارخ ضد “إسرائيل” من محطة التلفزة الوطنية. لقد قام باعتقال المئات من ناشطي حماس، وهم يقبعون الآن في سجون السلطة الفلسطينية. لقد رفض الاستسلام للضغط العام الذي يدفعه للتسوية مع حماس تحت أية ظروف.
لقد أثبت قدراته القيادية مرة بعد أخرى. لقد حان الوقت لنتوقف عن القول أن عباس قائد ضعيف. ربما يكون عباس أفضل شريك فلسطيني يمكن أن نأمل بالعمل معه.
كلا، ليس هو صهيوني، ولن يتبنى مواقف “إسرائيل” في المفاوضات. سوف يحافظ على قراره برفع تقرير غولدستون إلى الأمم المتحدة، رغم ضغوطات إسرائيلية شرسة.
إنه قائد فلسطيني وليس عميلا لـ ”إسرائيل”. سوف يطالب بحقوق الفلسطينيين في القدس وسوف يطالب بالتفاوض على قضية اللاجئين وليس الاستسلام لها قبل بدء المفاوضات.
*-المدير التنفيذي العام المشارك في مركز “إسرائيل”/ فلسطين للبحوث والمعلومات، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2616 - الثلثاء 03 نوفمبر 2009م الموافق 16 ذي القعدة 1430هـ