في كل مرحلة من مراحل تطور الحياة السياسية تطفو على السطح ملفات معينة تستحوذ على اهتمام المواطن، وتحظى بحصة الأسد من أنشطة القوى السياسية ذات العلاقة، معارضة كانت ام سلطة تنفيذية. قائمة هذه الملفات ليست ثابتة، وتتحرك محتوياتها صعودا وهبوطا في سلم الأولويات انسجاما مع الظروف المحيطة بها من جهة، ومحصلة تفاعل العوامل الداخلية والخارجية وانعكاساتها على الساحة المعنية من جهة ثانية.
ولتقريب الصورة من رؤية القارئ، وقبل تناول الملفات الساخنة البحرينية، يمكننا تسليط الأضواء على البعض من تلك الملفات في دول أخرى.
على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، وفي خضم انشغال الرئيس الأميركي باراك اوباما بملف الأزمة المالية العالمية، وانعكاساتها على الصناعة الأميركية، وعلى وجه الخصوص صناعة السيارات، كان الكثيرون ممن يتابعون مسيرة أوباما الرئاسية يتوقعون ان تحظى تلك الأزمة بجل اهتمامه.
لم يغفل أوباما ذلك الملف، لكنه لم يكن بوسعه تجاوز ملف آخر أكثر أهمية منه، والذي هو ملف «نظام الخدمات الصحية»، الذي فرض نفسه كأهم بند على سياسة ترتيب أوضاع البيت الأميركي من الداخل، مما جعل الرئيس الأميركي وطاقمه من الإداريين والمستشارين يركزون جهودهم على هذه القضية أكثر من سواها من القضايا الأخرى، بما فيها تلك الساخنة من مستوى «الملف النووي الإيراني»، او ملفات «أفغانستان والعراق». الأمر ذاته ينطبق على دول صغيرة نسبيا مثل إيران التي شاهدناها في الأونة الأخيرة تعطي الأولوية، لملفها النووي، الذي تقدم، وبمسافات طويلة، مواقع ملفات أخرى مثل النفط، بل وحتى نتائج الانتخابات الرئاسية.
لقد تمحورت أنشطة الحكومة الإيرانية على امتداد الفترة الماضية، على الصعيدين الخارجي والداخلي، لضمان استمرارها في تنفيذ برنامج ذاك الملف، دون أن يقودها ذلك إلى مواجهات مباشرة مع قوى خارجية مثل الولايات المتحدة.
بالطبع ليس من الضرورة بمكان ان يستحوذ ملف واحد بعينه على أنشطة القوى السياسية، إذ يمكن أن تبرز على السطح مجموعة من الملفات تحظى بنفس القدر من الأهمية والحضور.
ولضمان وصول الملف الساخن إلى تحقيق أهدافه، لابد أن يكون مدخل المعالجة، ومنذ البداية صحيحا، ويرتكز على مشروع سياسي صحيح يدافع عن مصالح البلاد بشكل كامل، دون استئثار فئة دون سواها سواء من نتائج المشروع، أو تداعياته وانعكاساته. أحد اهم عناصر النجاح التي يحتاجها الملف الساخن هو انتقاله من الخانة الفئوية الضيقة إلى تلك الوطنية الرحبة.
نعود من تلك الصور الخارجية كي نحط الرحال في ساحة العمل السياسي البحريني، كي تواجهنا مجموعة من الملفات الساخنة التي استحوذت على اهتمام القوى السياسية البحرينية، وبتفاوت، منذ تدشين المشروع الإصلاحي الذي قاده جلالة الملك.
أهم تلك الملفات كان ملف «التجنيس السياسي»، الذي بالإضافة إلى تداعياته السياسية، نجده يمس صلب التكوين الديموغرافي، ومن ثم الاجتماعي لمملكة البحرين.
ما يؤكد سخونة هذا الملف ما نسمعه يوميا من أنشطة سياسية تحاول لفت النظر إليه او تسليط الأضواء على امتداداته.
بوسعنا رصد مجموعة من الفعاليات التي تؤكد صحة ما نذهب إليه. فخلال أقل من شهر واحد فقط كانت هناك العريضة الموقعة المرفوعة لجلالة الملك، تلا ذلك مجموعة من الندوات والمحاضرات التي أقامتها بعض الجمعيات السياسية، ثم كان ارتداء مجموعة كبيرة من النواب شارة حمراء لدى دخولهم قاعة البرلمان، وتوج ذلك بالسياج البشري الذي أقيم أمام مسجد الفاتح يوم الجمعة الماضي، آخر أيام شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2009. ترافق ذلك مع العديد من المقالات التي نشرتها بعض الصحف المحلية.
ولكي يكون مدخل تعاطينا مع هذا الملف المتفجر صحيحا، ينبغي العودة إلى جذور المشكلة والتي تبدأ حين جرى التفكير في منح الجنسية البحرينية لمن وجدت فيهم السلطة التنفيذية والجهات المعنية مواصفات استحقاقها من غير أبناء البحرين.
وكي يكون الحكم منصفا على سياسة منح الجنسية للجدد الذين نالوها، ينبغي لنا الاطلاع على «التصنيفات» أو «المعايير» التي تمت وفقها سياسة التجنيس المعمول بها حاليا.
ليست البحرين هي الدولة الأولى التي تتبنى سياسة التجنيس فقد سبقتها دول كثيرة إلى ذلك، بعضها ينتمي إلى الدول النامية، لكن الغالبية منها تقع في نطاق الدول المتقدمة اقتصاديا.
وإذا ما حاولنا المقارنة مع الدول المتقدمة اقتصاديا والمرموقة حضاريا من مستوى الدول الأوروبية أو الدول الأميركية، فسنجد أنه بالإضافة إلى القوانين المحددة المعمول بها هناك، حرصت تلك البلدان على التقيد ببعض السياسات التكتيكية، التي لجأت إليها بعض الدول من أجل الاستفادة من تلك السياسات، كي تصب في نهاية الأمر في الهدف الإستراتيجي من التجنيس، والذي هو توفير الموارد البشرية التي يحتاجها المجتمع المعني لسد نواقص معينة تعجز الموارد البشرية في ذلك المجتمع عن تأمينها، شريطة أن لا يؤدي ذلك، وبأي شكل من الأشكال في إحداث إية اضطرابات سياسية أو اجتماعية تربك حركة ذلك المجتمع أو تعيق خطواته التطويرية.
هذا يفسر ما قامت به دولة مثل كندا في مرحلة تركيزها على مشروعات تشييد البنية التحتية من طرق واتصالات في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، عندما أعطت الأولوية إلى تشجيع الراغبين في الهجرة لها، إلى اليد العاملة الماهرة من فنيين وإداريين، الذين كان حظهم في الهجرة أفضل، وأقل تعقيدا، حتى من حملة المؤهلات الجامعية العالية من ماجستير ودكتوراه.
أما المملكة المتحدة، فقد شجعت المهنيين في حقل الخدمات الصحية ممن يتقنون اللغة الإنجليزية الأولية في حق السفر إلى بريطانيا، ونيل الجنسية البريطانية في فترة قياسية نسبيا، من أجل سد حاجات نظام خدماتها الصحية إلى مثل تلك المهارات.
لذا فإن اول التساؤلات التي يثيرها ملف التجنيس هو لماذا التجنيس؟، وما هي الأهداف التي يصبو إلى تحقيقها؟ وما هي المعايير المعمول بها لنيل الجنسية البحرينية؟
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2613 - السبت 31 أكتوبر 2009م الموافق 13 ذي القعدة 1430هـ