كلّ ما نُدركه عن تنظيم القاعدة أنه كيان إرهابي. وأيضا أنه يُعادي الأنظمة الحاكمة الشرقية منها أو الغربية والعربية والإسلامية بالسّواء. ويُبيح القتل كيفما اتّفق بحقّ المسلمين سُنّة وشيعة ومُسلمين باطنيين وغيرهم. هذا الاختزال عن القاعدة مُريح للجميع بمن فيهم المُحلّلون.
لكنني هنا أتساءل عن خبر نشرته صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية قبل أسابيع عن اعتقال إدارة المخابرات الداخلية في مدينة فيين بمنطقة الإيزير الفرنسية أخوين شقيقين (فرنسيين من أصل جزائري) بتهمة الانتماء إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
الغريب في الأمر هو أن أحد الشقيقين والذي يبلغ من العمر 32 عاما يعمل باحثا متخصصا في مركز البحوث النووية في جنيف! بالتأكيد فإن هذا الخبر إن صح فإنه سيكون بحجم الصاعقة على الكثير من المتابعين لشأن الحركات الإسلامية.
ربما يكون الإعلان عن اعتقال هذا الرجل تعميدا للكثير من الأشخاص الذين تمّ اعتقالهم في السابق وفي أماكن متعددة خارج فرنسا ممن يحملون درجات علمية مُعتبرة، وجرى الاستفهام عن علاقة تلك الدرجات العلمية بالفكر القاعدي.
هنا أحسب أن الموضوع جدّ مختلف. فهو من جانب يُعطي انطباعا أن الحرب الدائرة بين عشرات الدول (في الشرق والغرب) وتنظيم القاعدة يفرض إعلام حرب وضغوطا نفسية لا تنضح إلاّ بعبارات مسكوكة تنطوي على تشويه وتقليل شأن بحقّ طرفي النزاع.
من الجانب الآخر أفرض أمرا آخر يقضي بأن الحركات المتطرفة العالمية لم تخلُ صفوفها من كوادر علمية وأكاديمية مُدرّبة. بل وحتى الأسرة الدكتاتورية التي حكمت أجزاء من العالم على مرّ العصور كانت ملأى بالمثقفين والعلماء والدارسين.
في العموم تتعدّد مشاهد الوقوع في التطرّّف. فالفقراء يحنقون على الأغنياء لوقوعهم تحت تأثير الحاجات المُلحّة واللحظيّة أمام وفرة فاحشة مقابلة يتمتّع بها الأثرياء. وقد ثبّت التاريخ نزعة من الأحقاد تولّدت لدى الفقراء خلال الثورة الفرنسية والأميركية وظهّرهم بمخالب حادّة.
هكذا الحال تولّد أيضا لدى العبيد ضد أسيادهم، حين كانوا يُشحنون نحو العالم الجديد في الأميركيتين وتحوّلهم إلى سُخرة في المناجم والمزارع والسهوب ولخدمة الكلاب التي يعتني بها الرجل الأبيض.
فالسُّفْليّة تنتظم مع وجود وسائل إكراه قادرة على لجم التمرّدات في السلوك والنطق وحتى الإيماءات لكنها بالتأكيد لا تستطيع ممارسة ذلك الدور حين يصل الأمر إلى عدميّة الحياة بالنسبة للعبيد، بحيث لا يرون ما يخسرونه حتى ولو كان الحياة نفسها.
في موضوع القوة والضعف تُصبح تلك الأمور حاضرة أيضا. فعندما تبدأ الشعوب بحركة جماعية نحو رفض الواقع القائم تُصبح المواجهة بلا حساب رقمي ولا شعوري ولا حتى قِيَمي وأخلاقي، ويكون كلّ شيء مُشاعا ما دام حقا من حقوق المواجهة.
قد تستطيع أنظمة وقوى دولية صوغ أفكار الجماعات وتوجيهها، لكن عدم الاستطاعة يكمن في عدم القدرة على مدّ تلك «الصّوغنة الجبريّة» على الأفراد بشكل أفقي، بحيث تضمن نتائج إيجابية بنسبة 100 في المئة.
بالتأكيد فإن ذلك الوصف يتجاوز موضوع العبودية الجسدية نحو الاستعمار السياسي والعسكري من الدول الأقوى ضد الدول الأضعف. في هذه الحالة تضيق التفاصيل في المعارك لصالح الرؤية العامة التي تُؤجّل كل خلاف جانبي وتهتم بالتناقض الثنائي والتّام بين المُحتَّلِين والشعوب المقاومة.
ما الذي يجعل أشخاصا أسوياء دَرَسُوا في جامعات غربية وينتسبون إلى عوائل ميسورة جدا (وبعضهم لعوائل سلطة) أن ينحوا صوب ما يهمّ الآخرين (افتراضا) من الأفراد المُعدَمين والفقراء والأميين الذين يسهُل استقطابهم.
الإجابة على ذلك سهلة. فمردّ الأمر هو إلى انفصال الأمّة عن الانتماء إلى شكل الدولة الجامعة لصالح هويات خاصة ترى بأنها الأقدر على تلبية حاجاتها الايدلوجية والمفترضة وردّ الحقوق التي تُولّدها قضايا كالسيادة والاستقلال.
صاحب ذلك بروز تجاور واندماج ما بين القومية العربية والدين حين سلّمت الأولى للثانية في تبادل ناعم للقوة. وهي (أي القومية) تعيد إنتاج نفسها مرة أخرى حين أخذت على عاتقها في السابق تذويب من هُم غير عرب ولكنهم يُدينون للقومية العربية (الأتراك مثالا).
خلاصة القول بأن تنظيم القاعدة لا يملك أفكارا مُشَهّيَة أو مُشجّعة بقدر ما توفّره الظروف السياسية المتردية من أجواء تدفع بالانتماء لكل ما هو ضدّ تلك الأوضاع والظروف، وهنا بيت القصيد.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2612 - الجمعة 30 أكتوبر 2009م الموافق 12 ذي القعدة 1430هـ