عرفت البحرين تاريخيا بوجود عدد كبير من العيون الطبيعية البرية والذي ارتبط بالازدهار الحضاري الذي عاشته هذه البلاد بمياهها العذبة، حيث كانت هذه المياه سببا رئيسيا لاستقرار السكان الأوائل فيها. وقد استمر الإنسان القديم الذي عاش على هذه الأرض ردحا من الزمان في تلبية الجزء الأعظم من احتياجاته المائية معتمدا بصورة أساسية على مياه العيون منذ البدايات الأولى لاستقراره وحتى بداية العقد الثالث من القرن العشرين بعدها بدأت عملية سحب المياه بواسطة الآبار التي بدأت تحفر بصورة جنونية حتى تسببت تلك الآبار بإضعاف تدفق المياه من تلك العيون وكذلك تسببت بتلوث مياهها بمياه البحر. بالإضافة لاستخدام العيون كمصدر مائي فإن هذه العيون قد ارتبطت عند العامة بمعارف وثقافة، وسنتناول هنا جزءا من تلك الثقافة.
يبدو أن للعيون في جزر البحرين مكانة خاصة منذ قديم الزمان حيث تشير المكتشفات الأثرية للمواقع التي تعود لفترة دلمون لبناء المعابد بالقرب من عيون طبيعية كمعابد باربار ومعبد الدراز وكذلك عين أبو زيدان حيث يعتقد بوجود معبد بني عليها، وقد استخدم شعب تلك الحقبة مياه هذه العيون في الاغتسال والتبرك ولتطهير أجسامهم لاعتقادهم بقدسية مياهها.
هي عين قديمة تقع في قرية الدراز ارتبطت بأسطورة وهي أنها طمرت على يد أحد الخلفاء الأمويين المبكرين وهو عبدالملك بن مروان وذلك عقابا لسكان البحرين لأنه ذهب ليطلب يد بنت لهم ليتزوجها فأبوا أن يزوجوها له لأنه كان معاديا وناصبا العداء للعقيدة التي كانوا يدينون بها وهي التشيع. وقيل إنه جاء للبحرين مهاجما بسبب ملاحقة السياسيين المعارضين له والذين هربوا للبحرين. وقد زعمت العامة أن هذه العين من أعظم عيون البحرين في السابق وزعموا وجود قنوات مائية تمتد من هذه العين وتصل إلى المناطق المجاورة وقيل إن تلك القنوات تصل حتى منطقة راس رمان. ولم يبقَ من هذه العين إلا أثرها الذي وصفه «بيبي» في بداية الخمسينيات من القرن العشرين في كتابه البحث عن دلمون، بهوة دائرية تحيط بها آكام غطتها الرمال وقد علتها ما يقارب المئة أوأكثر من كتل الأحجار المربعة، ثم قال عن تلك الهوة:
«وفي الحقيقة أننا حين حفرنا في مركز الهوة واجهتنا كتل حجرية مشابهة اختلطت على غير انتظام ثم واجهنا الماء إلى الأسفل منها وعلى ذلك أصبحت مواصلة التنقيب تتطلب ضخ الماء باستمرار ونحن لا نملك مضخة».
وقد أخذ بيبي يتتبع كتلة ناتئة من المبنى برزت على إحدى منحدرات الهوة وقد عثر خلف كتل البناء على مجموعة من الدرجات تتجه إلى الأسفل، تابع بيبي وصفه بقوله:
«قادتني درجاتي إلى بئر وهي بئر جديدة بمقاييس الآبار، وتتقارب فوهتها وسطح غرفة حجرية صغيرة في أسفل الدرجات، وقد تشكل فم البئر من قطعة حجرية واحدة مساحتها ثلاثة أقدام مربعة بارتفاع قدم ونصف وقد قصت الفوهة بداخلها بقطر قدمين وامتلأت الفوهة مثلها مثل الغرفة بالرمل، وحالما بدأنا بالحفر تدفق الماء النقي منها. وحينما نظف البئر ارتفع سطح الماء إلى أقل من بوصة من سطح أعلى الحجرة، ولقد تشكل البناء ككل على هيئة قطعة هندسية رائعة، وستكون مثارا للدهشة إذا صحت الأسطورة القائلة إن البئر الواقعة على مقربة من المنطقة الخارجية لهذا الدرج كانت أكبر بئر في البحرين».
تعتبر عين عذاري من أكبر العيون الطبيعية في البحرين من حيث الاتساع والعمق، ويعتقد أنها العين الذي ذكرها الإدريسي محرفة باسم «غذار» في كتابه نزهة المشتاق عند ما وصف «أوال»، يقول الإدريسي:
«وفيها عيون ماء كثيرة ومياهها عذبة منها عين تسمى عين بو زيدان ومنها عين مريلغة ومنها عين غذار وكلها في وسط البلد وفي هذه العيون مياه كثيرة نابعة مترعة دفاعة تطحن عليها الأرحاء فالعين المسماة عين غذار فيها عجب لمبصرها وذلك أنها عين كبيرة قدرا مستديرة الفم في عرض ستين شبرا والماء يخرج منها وعمقها يشف على خمسين قامة وقد وزن المهندسون وحذاق العلماء علو فمها فوجدوه مساويا لسطح البحر وعامة أهل البلاد التي في هذه الجهة يزعمون أنها متصلة بالبحر ولا اختلاف بينهم في ذلك وهذا خطأ ومحال لا يشك فيه لأن العين ماؤها حلو عذب لذيذ شهي بارد وماء البحر حار زعاق ولو كانت كما زعموا لكان ماؤها مالحا كماء البحر».
وأما عن زعم بعض العامة أن العين متصلة بالبحر فيما يخص عين عذاري في الوقت الحاضر فقد ذهب البعض لهذا الزعم فليس من المستبعد أن تكون واحدة من العيون البحرية التي تنبع من قاع البحر وبفعل الزمن زحفت إليها اليابسة فقبل إنشاء منتزه عذاري لم يكن يفصل هذه العين عن البحر إلا شريط ساحلي ضيق يكفي بالكاد لمرور سيارة واحدة. إلا أن ما اشتهر عند العامة عن أصل وجود عين عذاري قصة أسطورية تروي قصة فارس أراد أن يخطب فتاة لكنها رفضته بسبب ارتباطها بشخص آخر وكان دليل صدقها أن تضرب الأرض برجلها فإن تفجر الماء صدقت وهكذا كان نتيجة صدقها أن تفجرت مياه هذه العين التي عرفت منذ ذلك الوقت باسم عذاري أي العذراء كتلك الفتاة.
ليست هذه هي الأسطورة الوحيدة التي ارتبطت بعين عذاري فيروي لنا بلجريف في مذكراته أسطورة أخرى حيث يقول: «وعذاري لم تكن مكانا آمنا للسباحة إلاّ لمن له القدرة على ذلك. فهناك خرافة تقول إن هذه العين لها حق على الناس، وهذا الحق هو أن يكون لها ضحية واحدة كل عام، وفي الحقيقة أن طوال سنوات إقامتي بالبحرين (31 سنة) كنت اسمع عن غرق شخص واحد في كل صيف تقريبا منذ عام 1926 وحتى 1957».
«شگرة»
لا توجد أسماك مياه عذبة في البحرين أو شرق الجزيرة العربية ولكن هناك أسماك تعيش في العيون العذبة وقنواتها وتصنف تلك الأسماك في مجموعتين رئيسيتين الأولى وهي أسماك المياه العذبة الثانوية وهي أسماك تعيش في المياه القليلة الملوحة أو المسوسة وكذلك المياه العذبة هي في الخليج نوع واحد يسمى في البحرين «حرسون» والجمع «حراسين» واسمه العلمي Aphanius dispar وعادة ما تتواجد هذه الأسماك في القنوات المائية المرتبطة بالعين ولكنها تسبح لتعيش في العين وهي كثيرة في عين عذاري.
أما المجموعة الأخرى من الأسماك فهي أسماك بحرية لكن لها القدرة أن تعيش في المياه العذبة، وقد عثر في شرق الجزيرة العربية على سبعة أنواع من أسماك البحر تعيش في المياه العذبة، وهذه الأسماك تسبح من البحر إلى «المنجيات» أو القنوات التي تصب في البحر ومنها إلى العيون ومن النادر أن تصل هذه الأسماك للعيون إلا إذا كانت قريبة من البحر. من تلك السبعة أنواع التي عثر عليها في شرق الجزيرة العربية عثر في البحرين على أربعة أنواع فقط تعيش في المياه العذبة، ومن تلك الأربعة عثر على ثلاثة أنواع منها في العيون العذبة، ولقد أصبحت تلك الأسماك ميزة تميز العيون التي توجد بها، النوع الأول ويعيش في عين عذاري وهو نوع من سمك النيسر تسميه العامة «شگرة» واسمه العلمي Lutjanus argentimaculatus وهذا النوع من الأسماك مفترس ويتغذى على «الحراسين» التي توجد بالعين أيضا. والنوع الثاني ويعيش أيضا في عين عذاري ويسمى محليا «شيم وشبوط» واسمه العلمي Chanos chanos لاحظ أن الاسم المحلي شبوط هو أيضا اسم لسمكة تعيش في المياه العذبة فلربما سميت بذلك تشبيها لها بالشبوط وربما هذه التسمية المحلية هي التي حدت ببلجريف لأن يكتب في مذكراته واصفا هذه الأسماك الضخمة في عين عذاري بقوله «وتوجد داخل عين عذاري أسماك كبيرة الحجم تشبه سمك الشبوط النهري تسبح ببطء في أرجائها». النوع الثالث من الأسماك وهو الذي يوجد في عين أم الشعوم فهو الشعم ومنه اكتسبت العين اسمها واسمه العلمي Acanthopagrus berda.
عين قصاري أو كما ورد اسمها في نقوشات مسجد الخميس «عين القصارين» أي عين غاسلي الملابس. وقد أدى إنشاء شركة بابكو لشارع الشيخ سلمان والذي يربط العاصمة المنامة بمنطقة عوالي حيث يوجد مقر الشركة إلى تقسيم عين قصاري إلى قسمين : عين قصاري الكبرى وعين قصاري الصغرى (عين الدوبية). وعندما قل تدفق عين قصاري الكبرى ردمت من قبل الهيئة البلدية عام 1985م وحولت إلى ملعب لكرة القدم ثم حولت لحديقة عامة. أما عين قصاري الصغرى فبقت مغسلا للغسالين الهنود لضحالة مياهها عند الأطراف لذا أطلق عليها اسم عين الدوبية (من اللغة الأردية). و لما هجرت هذه العين من قبل الغسالين حولتها بلدية المنامة إلى متنزه العام 1972 م ولازالت هذه العين مستغلة كمتنزه حتى الآن حيث حولت العين إلى مسبح.
تقع عين أبو زيدان في البلاد القديم وهي من العيون التي اشتهرت في الماضي القريب بأنها مكان تؤدى فيه النذور حيث كانت تغص كل يوم بالمستحمين وأصحاب النذور من أغلب مناطق البحرين. ولعين «أبو زيدان» ميزة تاريخية خاصة جعلتها تذكر منذ قديم الزمان فقد ذكرت قبل أكثر من ألف عام من الآن حيث كانت الحمام المفضل للعامل القرمطي في البحرين حيث قتل فيها في بداية ثورة أهل أوال ضد القرامطة، قتله «أبو البهلول».
من طقوس الزواج المشهورة في البحرين وشرق الجزيرة العربية هي سبوحة المعرس والعروس وتسمى أيضا الغسالة والبعض يقول الغسولة وهي مراسم تسبق ليلة الزفاف تتم خلالها بعض الترتيبات الضرورية لتجهيز العروسين، فبالنسبة للفتاة في القطيف والبحرين يعلن أولا عن غسلتها قبل ليلة الزفاف بثلاث ليال، وذلك بأن تؤخذ عصر أحد الأيام، أو صباحا في بعض النواحي، في لُمَّة من النساء والفتيات، والصبايا، لإحدى العيون الشهيرة. وليست السبوحة أو الغسالة هي المهمة هنا بل الطقوس المصاحبة لها عند العين، فقد عرف عن العيون أن الجن قد تسكن بها وقد مر بنا مثل هذا الاعتقاد في الحديث عن العيون البحرية. وما أن يحدث أي حادث في عين كغرق أحد الأشخاص حتى يتم شيوع أن العين بها «جنية». فلذلك أثناء عملية الغسال في العين يتم كسر بيضة، أو أكثر، في أماكن مختارة، وخصوصا العين التي تتم فيها الغسالة، إضافة إلى (تقسيم العذرة)، وهو طعام يعمل من الرز والدبس، أو السكر، ويسمى المحمَّر أو البرنجوش (البرنيوش). ويؤخذ شيء من العذرة فتفرق في طريق عودة موكب الغسالة برمي قبضات صغيرة منه في مجاري المياه، والزوايا، والمنعطفات، لإرضاء الجن أو كما يقال (الصالحين) واتقاء شرهم، وعادة ما تردد المرأة التي تقوم بتفريقه عبارة: (اكلوا وباركوا)، وعند وصول الموكب إلى المنزل يقدم البرنجوش للحاضرات فيأكلنه، وما يقدم من العذرة لا يعد من ضمن العشاء، وإنما يقدم على سبيل البركة.
كذلك الحال في سبوحة المعرس فقبل ليلة واحدة من ليلة الزفاف، وفي بعض المناطق في ليلة الزفاف ذاتها، تجرى غسالة العريس، (أو غسلته)، فيؤخذ لإحدى العيون الشهيرة يرافقه حشد من أهله وأصدقائه وأهل بلدته في وقت الأصيل ويحمم بنفس الكيفية التي حممت بها العروس وينظف تنظيفا مبالغا فيه، ويقوم المعرس بحلق شعر الجسد بالنورة الممزوجة بالزرنيخ. وفي بعض الأحيان يؤتى بحلاق (مزين) لحلق العريس في مكان الغسالة، فيقوم بحلقه في العين، وأحيانا تتم حلاقته في الصباح، أو في البيت قبل الذهاب للعين، ويتم كسر بيضة، أو أكثر، على أحد جروف العين إرضاء للجن، وكذلك توزع النورة على البالغين، كما يقوم المكلف بالعذرة بتفريقها على الجن، ذهابا وإيابا، كما مرَّ بنا في وصف غسالة العروس، ويطاف بالبخور، أثناء إشاعة الصلوات على النبي وآله، وترديد الأغاني.
العدد 2610 - الأربعاء 28 أكتوبر 2009م الموافق 10 ذي القعدة 1430هـ
الله احفظ البحرين واهلها المخلصين
جيد
البحرين
الله يخليج لنا يا أستاذ حسين ويخليج للبحرين