أمام هذه الحالة السياسية البحرينية المتميزة، ينبغي مراعاة قضية في غاية الأهمية، عندما يضع أي مواطن نفسه أمام خيارات من مستوى: المشاركة في انتخابات المجلس أم مقاطعتها، إذ بوسع من يبحث عميقا في التفاصيل، أن يجد الإيجابيات والسلبيات في كل من الخيارين، لكن القيادات السياسية مطالبة برؤية الوجه الرئيسي لأي من الخيارين دون الغرق في التفاصيل الصغيرة ذات القيمة الضئيلة أو المردود المحدود.
إن تغييب صورة الانعكاس الرئيسي الصحيح، وتضخيم مجموعة الانعكاسات الثانوية، للخيار غير الصحيح، يمكن أن يدمر مسار الحركة السياسية ويحرفها عن أهدافها الكبرى.
لذا، وعلى أساس ضرورة تجسيم الاتجاه الرئيسي، وتحديد ملامح صورته بدقة، ووضعها في إطارها الذي يليق بها، دون إغفال تلك الثانوية، أو تضخيم حجمها يمكننا تحديد ملامح ذلك الانعكاسين على النحو التالي:
محصلة خيار المقاطعة سوف تتمظهر في العودة إلى دوامة سياسية تستمد قوتها من تجريد قوى المعارضة من حقها الطبيعي في ممارسة عملها السياسي العلني، بما يشمل ذلك من استخدام كل القنوات السياسية، ومن بينها البرلمان، دون أن يكون هو الآخر القناة الوحيدة، من أجل بناء علاقات سليمة وبناءة مع الحركة الجماهيرية.
ويتم ذلك بالتوازي مع العمل المستمر الدؤوب لتجريد السلطة من محاولات استفرادها بالقرار، الأمر الذي أثبت تاريخ العمل السياسي البحريني أنه يقود في نهاية المطاف إلى سن القوانين القمعية التي لا تصادر الحقوق السياسية فحسب بل تتنامى كي تصل إلى سن القوانين القمعية والعمل المستمر بها.
لقد بات من مسلمات العمل السياسي في البحرين أن الاستفراد يشكل بيئة خصبة لنمو ورعاية طحالب الفساد الإداري والمالي، وانتعاش سلوك الاستبداد من جهة، وتحطيم هياكل منظمات المجتمع المدني وتهميش دورها في الأعمال الاجتماعية والأنشطة السياسية على حد سواء من جهة ثانية.
يتطور الأمر كما شاهدناه، أيضا، في البحرين، بعد حل المجلس الوطني، وقبل تدشين المشروع الإصلاحي، إلى وضع المعارضة في خانات الإرهاب والتآمر، وإلصاق قائمة لا نهاية لها من التهم بها، تتطور رويدا رويدا كي تتحول، أي تلك التهم، من مساراتها السياسية المنطقية، لتحط رحالها في خانة الجرائم الجنائية الملفقة، وحادث «مقتل المدني» في منتصف السبعينيات من أبرز الدلائل على صحة هذا القول.
بالمقابل، نجد أن محصلة المشاركة تتجسد في فتح الأبواب على مصراعيها أمام المعارضة السياسية كي تعبر عن نفسها تحت قبة البرلمان ومن خلال لجانه المتخصصة، الأمر الذي يتيح علنا فرصة للجم السلطة التنفيذية وتحجيم نزعات الاستبداد التي تسود صفوفها.
يترافق ذلك مع إفساح المجال أمام منظمات المجتمع المدني، كي تمارس أدوارها السياسية والاجتماعية على حد سواء، تحت مظلة قوانين تم تحديد جوهرها تحت قبة المؤسسة التشريعية. يسير ذلك بشكل متواز مع فتح مجالات الحوار الديمقراطي الصحي البناء بين فصائل المعارضة نفسها، التي لا يمكن أن تنعم بذلك في غياب المؤسسة التشريعية، التي تشكل من خلال الصلاحيات التي تتمتع بها، والقوة السياسية التي تحت تصرفها، إلى حاضنة طبيعية تمارس دورها الصحيح في حماية تلك القوى المعارضة من بطش الدولة ووسائل قمعها التي لا تكف عن محاولة ممارسة ذلك حتى في وجود البرلمان.
ومثلما يفرض البرلمان قوانين الشفافية والحوكمة على السلطة التنفيذية، كذلك يجعلها الترمومتر الذي يقيس به التزام المعارضة بتلك القوانين وعدم تجاوزها، الأمر الذي من شأنه تنقية الأجواء السياسية برمتها من كل أتربة الفساد وفيروسات الانحرافات.
لذلك، وبينما تقول الصورة الرئيسية للمقاطعة إن هذا الخيار يحصر المعارضة في زاوية ضيقة ويجردها من الكثير من أدواتها التي تحتاجها لتنظيم الحركة الجماهيرية وتصعيد نضالاتها، والارتقاء بأدائها، نجد بالمقابل أن قرار المشاركة يفتح أمام المعارضة ذاتها جادة عريضة، متى ما أحسن السير فيها، بوسعها أن تعزز من العلاقات السياسية بين فصائل المعارضة أولا، وبين تلك الفصائل وجماهيرها ثانيا، والأهم من ذلك كله تضع بيد المعارضة أداة شرعية، ليست على المستوى الوطني الداخلي، ولكن على المستوى العالمي أيضا، بوسعها أن تلجم عنان السلطة السياسية وتحد من نزعاتها التسلطية، بما فيها تلك التي تمس الحياة الاقتصادية، دع عنك الحياة السياسية.
بقيت الإشارة إلى تناول مقولة سياسية، كثيرا ما نسمع صداها يتردد في أروقة دعاة المقاطعة، وهي أن المشاركة من شأنها أن تضع في يد الدولة «صكوك البراءة والطهارة والاستقامة ... إلخ»، في حين تحافظ المقاطعة على «الصورة السياسية البشعة للنظام وتؤمن القدرة على تعريته». ولعل تجارب العقود من السنوات التي تلت حل المجلس الوطني، والسنوات السبع التي تؤرخ لعمر المؤسسة التشريعية القائمة كفيلة، بإعطاء صورة صحيحة، لمن يريد أن يعيد النظر في حسابات الربح والخسارة بشكل موضوعي غير متحيز وخال من التعصب.
هذا يعيدنا إلى حلقة النقاش الذي أثير في البداية، حيث كان ختام تلك الجلسة قول أحدهم «من الطبيعي أن تكون تكاليف إعادة بناء ما تلتهمه ألسنة نيران حريق مصدره تماس كهربائي مكلفة وشاقة، ومن ثم لا ينبغي الاستهانة بتكاليفها المالية والسياسية، لكن تكاليف إعادة الحياة البرلمانية، فيما لولا قدر الله وتم وأدها، ستكون باهضة إلى درجة لا يمكن مقارنتها بحرائق من النوع الأول، وسيقع عبء تسديد فواتيرها السياسية على المعارضة قبل أي أحد سواها».
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2609 - الثلثاء 27 أكتوبر 2009م الموافق 09 ذي القعدة 1430هـ