إبّان حكم صدام حسين حاول البعثيون تحجيم دور العشائر العراقية. فقد عُمِّمَ قرار جمهوري بحذف المُسمّى العشائري للأفراد، وبدأوها بقيادات البعث. حَذَفَ عِزّة إبراهيم لقب الدوري من اسمه. ولم يعد يستخدم صدام لقب التكريتي، ولا طه ياسين رمضان لقب الجزراوي.
كان البعث يرمي من ذلك تقليل غلواء العشائر العراقية على النسيج المجتمعي والسياسي خوفا من تحوّلها إلى قوّة موازية للسلطة، وخصوصا أن بُنيتها هي أشبه بالسلطات المحليّة الصغيرة داخل الفيدراليات. كانت نظرته أمنية بحتة لتطويق أيّ تهديد مُحتمل للنظام السياسي.
بطبيعة الحال فإن تلك الخطوة لم تستطع أن تقضي على ما يُعبّأ في اللا شعور لدى العشائر العراقية التي «رفعت النّسب إلى مرتبة العلوم» على حدّ قول أحدهم، وبالتالي فإن الأمر كان مهيأ للعودة متى ما سَنَحَت الفرصة.
في العُموم فإن بُنية العشيرة بقيت صلبة، ولكن وهجها كان مُضْمَرا. وكان الاستناد إليها في الاجتماع والسياسة يدرّ ربحا مُجزِيا، وهو ما أدركه جيدا السيد محمد محمد صادق الصّدر الذي انفتح على البطون العشائرية وقدّم لها فقها خاصا فحصل من خلال ذلك على قاعدة شعبية ومالية هائلة.
في إدراك المخزون المعنوي والمادي لدى العشائر العراقية لابدّ من استحضار ما قامت به تلك الجيوب العشائرية في محافظة الأنبار ضد تنظيم القاعدة التي عَجِزَ مئة وأربعون ألف جندي أميركي منتشرون في كلّ العراق من القضاء عليها.
لعشائر العراق تاريخ خاص. فجزء كبير منها يمتدّ إلى عهد الخلافة الإسلامية التي حطّت عاصمتها في بغداد. ولأن حاضر الدولة الإسلامية كانت مزدهرة فقد ترك ذلك أثره على العشائر والقبائل البدوية، وانتقالها (أو أجزاء منها) من البداوة إلى التحضّر.
فالنشاط التجاري لدى هذه القبائل كان الرعي فقط، إلاّ أن ظروف الدولة قد حوّلهم شيئا فشيئا للانتقال إلى امتهان الزراعة ومن ثمّ إلى مجتمع إقطاعي برجوازي صغير يتطلّع دائما إلى الثّراء وليس الريادة الاجتماعية فقط.
كان ذلك التحوّل قد جعلهم أكثر قُربا من الحالة الحضرية التي كانت لها سماتها الخاصة. ورغم أن التماهي التام مع تلك السّمات لم يحدث (وخصوصا في مجال تبجيل وتعزيز الكيان العشائري الخاص) إلاّ أن التأثّر أصبح واضحا بين أهل الحضر والبدو. وكان ذلك مدعاة لحصول تغيّرات كثيرة لدى الجانبين.
علماء الاجتماع كانوا يعتقدون بأن البدو كانوا أكثر ميلا إلى الدين الأوّلي غير المُتكلّف، باعتبار أن أصل تديّنهم كان قائما على براغماتية وجودية هدفها الوصول إلى الاستقرار والحفاظ على القوّة والانتصارات ضد الخصم.
بعكس الحضَر الذين توسّلوا حاجات دينية إضافية تمثّلت في المقدّسات الفردية والمكانية. ولأن عيش الحضر والبدو والعشائر كان متلاصقا، فقد تورّط الجانبان في معتقدات بعضهما البعض، حتى ولو لم يأخذ جانبا مطابقا.
زَاد من ذلك توزّع العشائر على مسطرة المذاهب الإسلامية. فأصبحت بعضها شيعية الانتماء وأخرى سُنّية، وبعضها غاص في المذاهب الصّوفية الباطنيّة. ثم دفعت تلك الانتماءات بالعشائر لأن تتصاهر بعناوين عشائرية مع ضبط جيد للعامل المذهبي.
لذا نرى أن عديدا من العشائر العراقية لم تعُد نقيّة الانتماء المذهبي. بل إنها تحمّلت ما فَرَضَه التوزيع الديمغرافي عليها، حين أصبحت عشائر الجنوب شيعية، والوسط سُنّية وبعض العشائر الموجودة في الشمال كُرديّة، ثم اختلاط الجهات الثلاث بموزاييك عشائري مذهبي متصاهر فريد من نوعه.
لقد تحوّلت بعض الأعراف العشائرية في العراق اليوم إلى دينية التكوين، بحيث اختلط فيها القانون العشائري القديم بأسمال دينية فرضها الاحتكاك بجغرافيا المدينة والتوزيع الديني المذهبي العريض، وهو ما يُذكّرني بالحزام القبلي الأفغاني الباكستاني الذي تواءمت معه الأديان القادمة من الشرق والمنطقة العربية.
قبل أيام قرأت تقارير تقول إن عُرفا عشائريا قديما في العراق عاد وفَرَضَ نفسه وبدأ يُنافس القوانين المدنية. أصل العرف يقول بأنه وحين تقع مشكلة خلافية بين عشيرتين تتدخّل عشيرة ثالثة مُقرّبة تقوم بجمع شيوخ العشريتين لتحديد المعتدي وظروف الاتفاق والتعويضات.
بعدها يقوم الوسيط العشائري بوضع قطعة قماش بين الطرفين اللذين يقومان بشدّها كلّ طرف إلى نَحْوِهِ وهي بمثابة أداء لليمين وتُسمّى بـ «راية العبّاس». وإذا ما قامت العشيرة المعتدية باعتداء جديد مرة أخرى تُغرّم أربعة أضعاف التعويض الأوّل.
المشكلة في ذلك أن بعض العشائر تتطلّب تعويضا خرافيا يفوق كلّ تصوّر وحدّ، بالإضافة إلى أن بعض العشائر لا يُمكن الوصول معه إلى حل على اعتبار أنها تعيش على الجريمة المُنظّمة من قتل وسرقة. وقد راج ذلك بصورة فاقعة إبّان الحرب الطائفية 2006 - 2007.
هنا تُصبح العقدة ليست في رجوع مثل هذه العادات القديمة والبائسة إلى المجتمع العراقي، بقدر ما يُنظر إلى حجم التراجع في مجال تفعيل الأنظمة والقوانين المدنية ومدى ضمانتها للحقوق الشخصية، لصالح قوى تعمل خارج الإطار القانوني للدولة.
إن التاريخ يُحدّثنا أن الدولة العراقية بُنِيَت في عشرينيات القرن المنصرف، مُتقدمة على معظم الأقطار العربية، وكانت الأحزاب العراقية منذ ذلك الوقت تُشكّل رافعة قانونية للدولة، وبالتالي فإن وصول ما وصلَ إليه العراق اليوم من ضمور وترهّل وتفكّك مجتمعي وسياسي يُشكّل كارثة حقيقية.
كان الأمل أن يتمكّن العراق من تقديم أفضل العروض السيادية والسياسية والاقتصادية والحقوقية ما بعد الاحتلال استنادا لتأسيساته الأولى منذ مطلع القرن العشرين، لكن ذلك الأمل يبدو أصبح بعيدا أو أنه سيتأخّر في ظل الأوضاع الحالية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2605 - الجمعة 23 أكتوبر 2009م الموافق 05 ذي القعدة 1430هـ
ديمقراطية العراق هي أفضل الديمقراطيات
يا أخي العزيز...إن ألقابا كالتكريتي و الدوري ليست بألقاب عشائرية وإنما نسبة إلى مدن و مناطق..و من قال لك بأن صدام وعزة الدوري وغيرهما ينتمون للعشائر العراقية..هم في الواقع لا أصل لهم ..متردية ونطيحة ولله الحمد ولذلك جاهد قعقاع زمانه على القضاء على العشائر الأصيلة لأنه لا ينتمي لها وإلا فإن العشائر العراقية معروفة (كما هي العوائل لدينا) من قبيل الدليمي والزبيدي والربيعي والجبوري وغيرها العشرات
العشائر و المجتمع المدني
بحكم تجربتي و ملاحظاتي ككاتب و صحفي عراقي , أرى بأن نظام البعث قد إستخدم العشائر كي ينفذ أجندته القمعية و حينها كان شيوخ و زعماء القبائل يبحثون عن المناصب و الهبات التي كان يمنحها النظام الدكتاتوري , أما الآن و بعد احتلال العراق و تفكك الدولة العراقية وجدت العشائر حالها حال كل الفئات الاجتماعية المتخلفة و المعادية للمدنية التحضر , فرصتها الذهبية في التسلل الى جسد الدولة العراقية الجديدة كما فعلت ميليشيات الأحزاب.
التطور و المدنية و التحضر مناقض تماما للقيم القبلية و العشائرية البالية
العباس ساقي العطاشى
مازالت العراق تعاني الجفاف على اثر السدود التي بنيت على منابع الفرات وشط العرب مما ساعد على الهجره الجماعيه من الاهوار الى البصره . وينك يا ابو فاضل تروي العراق من الظمى فهو محاصر من كل الجهات. فلا ماء ولا امان.