بحسب نبوءة ماكس سنجر، مؤلف كتاب «النظام العالمي الحقيقي: مناطق سلام ومناطق اضطراب» بالتعاون مع الكاتب أرون ويلدافسكي (1993)، حول امتداد الرخاء والديمقراطية والسلام في العالم، فإن جميع مناطق الاضطراب ستظل تشهد حروبا ومآسي كثيرة، بسبب الحروب والمنازعات العرقية والإثنية والدينية، ولكن على المدى البعيد، سيسود في تاريخ هذه المناطق انتشار الرخاء والأمن والسلام والاستقرار.
فالرخاء والغنى والاستقرار -بحسب الكاتب-، هم من نتاج المجتمعات التي تعلمت كيف تجعل شعوبها منتجة وقادرة على التكيف مع المستجدات، حيث أخد الاقتصاد ينمو بوتائر سريعة في الجزء الفقير من العالم، بسبب التطورات الهائلة التي شهدتها بعض البلدان الفقيرة والنامية في مجال السياسة والاقتصاد، وحتى في حال عدم مضاعفة مستويات التقدم نتيجة تخوف العالم الآخر، من أفكار وخطط العولمة الكابحة لهذا التطور، فإن الأمر يتطلب أقل من قرن ليصبح أكثر من ثلاثة أرباع العالم في حالة زوال المجاعات والفقر وقلة المنازعات والحروب، إذ إن التطور الاقتصادي المأمول سيعم كل هذه المناطق، نتيجة تعلم الشعوب من تجارب الدول التي نجحت في تحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان، ولا شك أن الدول التي مارست كل هذه القيم الديمقراطية أصبحت في آخر المطاف دولا مستقرة ومنتجة.
ويمضي الكاتب، إلى أنه من الأرجح أن يأتي العام 2100، وقد أصبحت مناطق التوتر والحروب، أصغر بكثير مما هي عليه اليوم، ولا أحد يتجاهل تنوع أسباب الحروب والمنازعات التي لا زالت تعكر صفو مناطق التوتر، إلا ان تلك القضايا التي تسلحت بها دول مناطق السلام لتقاتل من أجلها، هي نفسها التي تقاتل من أجلها مناطق التوتر والاضطراب.
في الصورة، التي رسمها ماكس سنجر، حول مصائر مناطق الاضطراب في العالم، لم تترجم فعلا على أرض الواقع، ولم تدرك الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، أهمية هذا التحليل وأهدافه ونتائجه، بالرغم من مرور أكثر من عقد من الزمن على هذا الحلم، حيث يبدو أن الصراعات القومية والعرقية والأثنية والدينية، وكذلك أوضاع التخلف والظلم، لا زالت تشتد بقوة مند ذلك التاريخ وإلى هذا اليوم، بالذات في الأجزاء الفقيرة حول العالم، رغم الدعوات الكثيرة والمساعي الحميدة والمساعدات الاقتصادية الهائلة التي تتلقاها من الدول المانحة (أكثر من 300 مليار دولار من المعونات لدول القارة الإفريقية وحدها (بحسب وولفويتز رئيس البنك الدولي في العام 2006)، وحتى التهديدات الرادعة بالحرب، لم تستطع أن توقف الحروب المسعورة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، بسبب التخلف والفقر وغياب الديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان وحب احتكار السلطة وتوريثها للأحفاد إلى الأبد، وتعدد الديانات والأثنيات والقوميات، إضافة إلى إصرار الدول الغنية في مناطق السلام، على رفد الأنظمة السياسية الحاكمة المستبدة، في مختلف هذه المناطق بالمال والسلاح لاستمرار بقائها في السلطة، من أجل أن تحمي مصالحها التجارية والاقتصادية العملاقة، ضاربة بعرض الحائط إرادة الشعوب المطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال.
هناك في مناطق الحروب والتوتر، يستحيل حصر المنازعات السياسية والاجتماعية والعقائدية المتعددة، التي أنهكت كاهل المجتمعات الفقيرة والنامية التي لا زالت تحلم بالديمقراطية والأمن والاستقرار والحياة الكريمة، فهناك إلى جانب تنوع الحروب والمنازعات الكثيرة، التي قضت على مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين في حروب الإبادة، ما بعد الحرب الباردة، فاق كل ما هو معقول (بحسب خبراء الصحة في جامعة هارفارد ومعهد البيانات الصحية التابع لمؤسسة غيتس، الذين ذكروا أن عدد الضحايا بين 1955 و2002 كان قد تضاعف إلى مستويات مخيفة ومقلقة، يوجد أكثر من 177 مليون إنسان، في شرق آسيا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، يعيشون تحت مستوى الفقر)، إضافة إلى الموت جوعا وبسبب الأمراض والإعاقات الجسدية والنفسية، التي تسببت بها الحروب والصراعات السياسية والاجتماعية في كل هذه المناطق.
كما أنه لا يوجد هناك أي تشابه، بين ما يحدث من صراعات في مناطق الأزمات والتوتر، وإحلال السلم والأمن والاستقرار والتعاون واحترام حقوق الإنسان في المناطق الغنية، حيث تزدهر هناك في مناطق السلام والأمن، مناخات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتدار حياة الدولة والمجتمع، ضمن الأنظمة والقوانين والتشريعات المتعاقد عليها بين الشعب والسلطة الحاكمة، وتحلي الجميع بروح التسامح وقبول الآخر، وليس كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات التي تخضع لحكم السلطة الشمولية، التي تحتكر ليس فقط وسائل القوة والقمع، بل أيضا مختلف وسائل الحريات، حيث تنمو من خلال ذلك المنازعات والصراعات وأحيانا الاحتراب وإراقة الدماء والتفرقة والتمييز والاستعلاء والكراهية والخوف من وجود وفكر الآخر.
من هنا ستظل مناطق الحروب والتوتر، على رغم هذه التنبوءات، تشهد مخاطر اجتماعية واقتصادية وأمنية أكبر، وربما على مدى عدة عقود مقبلة، مادامت دول الرخاء والديمقراطية، ترفض التعاون الدائم والبناء مع الجزء الفقير من العالم، لإدارة النظام الدولي، تحت ذرائع كثيرة، أهمها صعوبة الانسجام الروحي والأخلاقي والعقائدي، وكثرة المطاحنات والمنازعات ومحاربة بؤر «الإرهاب» والتخلف، في وقت يتوجب على مناطق السلام والأمن، بذل الجهود كافة من أجل تكريس وتعزيز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتطوير التنمية، والسعي المثمر لوقف الحروب ومآسي الجوع والحرمان والتشرد، التي تعاني منها مناطق التوتر في العالم، وهذا هو من أهم واجبات الديمقراطيات الكبرى، أن تدفع إلى الأمام نحو عالم جديد يكرس الإخاء والتعاون والأمن والسلام والاستقرار والكرامة الإنسانية، إذا أرادت بالفعل تحقيق الاستقرار التام والحياة الكريمة ومنع الحروب والتوتر في المناطق الفقيرة، وليس التسبب في إضعافها أو جرها إلى أتون الحروب المخيفة.
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 2605 - الجمعة 23 أكتوبر 2009م الموافق 05 ذي القعدة 1430هـ