في الوقت الذي يتوازن فيه الوضع في المناطق الفلسطينية المحتلة وخاصة في القدس على نصل سكين، وقد ينفجر في أية لحظة مرة أخرى ربما في انتفاضة ثالثة، من الحاسم مراجعة ما الذي تخاطر به جميع الأطراف إذا وقعت هذه الأحداث الكارثية.
يراجع عدد كبير جدا يفوق ما هو ضروري من اللاعبين والمعلّقين وبشكل عابر الوضع الراهن الخطر جدا، بل ويرحّبون باحتمالات انتفاضة ثالثة أو تفكيك السلطة الفلسطينية، أو ينادون بسيناريوهات أقل إثارة ولكنها خطرة كذلك بشكل غير طبيعي. لذا، وقبل أن يتطور الوضع أكثر من ذلك، لنكن واضحين عما نخاطر بفقدانه.
لا شك هناك بأن انتفاضة ثالثة سوف تتبع الأسلوب الذي تأسّست بعلاقة نهاية الانتفاضة الأولى مع بدايتها، والانتفاضة الثانية مع الأولى، ما يعني أن هذه العملية نتجت عنها مستويات ما فتأت تتزايد من العنف والموت والتطرف الديني على الجانبين. هناك متطرفون يحلمون بالعودة إلى عهد مضى منذ زمن بعيد، سِمَتْه «سلطة الشعب»، تميزت به الانتفاضة الأولى.
ليس هناك من تساءل قطعي بأن الانتفاضة الأولى، خاصة في مراحلها الأولية، كانت فاعلة بشكل خاص واحتوت على لحظات تستحق الإطراء والمديح من المقاومة الفلسطينية للاحتلال. وهو على الأرجح أنجح عمل سياسي فلسطيني جماهيري في التاريخ الحديث. إلا أن ذلك حدث في مضمون لم تكن فيه الأحزاب السياسية، دعمت من ميليشياتها المسلّحة، حاضرة فعليا في المناطق الفلسطينية المحتلة.
عندما انطلقت الانتفاضة الأولى بشكل عفوي تلقائي، كانت منظمة التحرير الفلسطينية في تونس ولم تكن حماس موجودة بالمرة. مع حلول نهايتها، كانت منظمة التحرير موجودة في فلسطين، وشكّلت جماعة الإخوان المسلمين أجنحتها السياسية وشبه العسكرية في فلسطين، أي حماس، بجهد شجّعته «إسرائيل» بهدف شقّ الحركة الفلسطينية بين الوطنيين والإسلاميين (وهي خطة نجحت بشكل زائد عن الضرورة).
الوضع الآن مختلف بشكل كامل، حتى لو ظهرت انتفاضة ثالثة بشكل عفوي نتيجة للغضب الشعبي بشأن أمر ما، فسوف تتم مصادرتها وتجنيدها بشكل محتوم وفوري تقريبا من قِبَل الأحزاب السياسية القائمة والمنظّمة والمموّلة جيدا والتي تملك ميليشيات مسلّحة كبيرة. هذا هو ما ميّز الانتفاضة الثانية عن الأولى، ونتيجة لذلك كانت الانتفاضة الثانية معسكرة وأكثر أيديولوجية، خاصة من حيث التطرف الديني. كانت نتائج الانتفاضة الأولى إيجابية بشكل كامل تقريبا من جميع النواحي، أما الانتفاضة الثانية فكانت نتائجها كارثية على الشعب الفلسطيني والحركة الوطنية.
أعتقد أنه لن يكون هناك أي شك جدّي صادق أنه بغض النظر عن حجم تمنيات الناس بالعودة إلى تلقائية الجذور والطابع اللا عنفي إلى درجة كبيرة للانتفاضة الأولى، ليس هناك عودة في واقع الأمر لأن أية قوة اندفاع كهذه سوف يتم خطفها بشكل ضمني من قبل مجموعات سياسية ومسلحة لم تكن ببساطة موجودة في المناطق المحتلة العام 1987. لذا فإن التوقّع المنطقي الوحيد هو أن الانتفاضة الثالثة سوف تكون أكثر عسكرية ودموية ووحشية وكارثية من الثانية، تماما كما كانت الثانية مقارنة بالأولى.
لا أستطيع ببساطة أن أرى أساسا لهندسة عكس هذا النمط.
يقترح هذا بالنسبة للفلسطينيين وبقوة أن أية انتفاضة ثالثة سوف تكون كارثية أكثر من الثانية. أي شخص ينادي بانتفاضة ثالثة دون أن يدرك ذلك هو غبي خطير يلعب بالنار، وأي شخص يطالب بها وهو يدرك نتائجها الفعلية متطرف خطير.
واحدة من النتائج الأكثر احتمالا لأية انتفاضة ثالثة سوف تكون صعودا نحو المستقبل المنظور للمنظمات الإسلامية وإعادة تصوير للحركة الوطنية الفلسطينية كقضية إسلامية، الأمر الذي يشكل قتلا أكيدا لأحلام فلسطين والسلام. أشك في أن القضية الوطنية الفلسطينية تستطيع، كأجندة سياسية عملية، أن تنجو من تشويه رهيب كهذا.
من الواضح أن الكثيرين في اليمين الإسرائيلي، وعلى الأرجح أيضا في الوزارة الإسرائيلية الحالية. قد يشجعون كذلك انطلاق انتفاضة ثالثة، وهم يأملون أن تسمح لهم بسحق السلطة الفلسطينية، وإلغاء أية احتمالات لمفاوضات السلام وتعزيز لكل من الاحتلال وأجندة الاستيطان بنشاط متجدد ووحشية جديدة. ويفسّر هذا الاستفزازات غير الاعتيادية والمبرمجة في السنوات الأخيرة والتي تركّزت حول القدس الشرقية وصبّت الوقود على النار.
يعتبر توجّه كهذا بنفس مستوى الخطر على الإسرائيليين على الأقل كما هو على الفلسطينيين.
لن تشكّل انتفاضة ثالثة كارثة أمنية لـ «إسرائيل» فحسب، وتكون دون شك أكثر خطورة من الثانية، ولكنها ستشكّل على الأرجح نهاية لأية احتمالات ليس فقط للسلام مع الفلسطينيين وإنما للتسوية مع الدول العربية، وضمان لبقاء «إسرائيل» في حالة حرب خلال المستقبل المنظور. إضافة إلى ذلك فهي قد تعني أن «إسرائيل» ستكون قد أضاعت آخر فرصة لتخليص نفسها من الاحتلال، بأسلوب عقلاني يمكن أن ينجح، جاعلة ما سيصبح الدولة الإسرائيلية بحكم الواقع دولة لا يهودية ولا ديمقراطية بأي منطق له معنى، تطوّر وتحصّن طبيعة نظام فصل عنصري خاصة في المناطق المحتلة، يمكنها أن تثبت على المدى البعيد أنها ضربة لا يمكن للأحلام والمشاريع الصهيونية والفلسطينية أن تصحو منها أبدا.
* زميل كبير في فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين ومؤلف كتاب «ما هو الخطأ في أجندة الدولة الواحدة؟»، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2604 - الخميس 22 أكتوبر 2009م الموافق 04 ذي القعدة 1430هـ