العدد 2600 - الأحد 18 أكتوبر 2009م الموافق 29 شوال 1430هـ

مزيد من الفهم للظاهرة الإيرانية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حسنا. ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. هذا ما يُصرَّح ويُلمَّح به بشكل دائم في القراطيس الصهيونية والأميركية أحيانا، وعلى لسان بعض السّاسة في أحيان أخرى. بعضهم يصفها بـ «حقيقة سياسية» وآخرون يقولون إنها «حرب نفسية».

أحاول في هذه المقالة أن أطرح مقاربة بشأن ذلك الخيار. لن يكون التحليل فنّيا لكيفية الضربة، ولا لأهدافها بقدر ما هو توصيف لإمكانية حصولها وفق المعطيات السياسية التي تفرضها أوضاع الدولة الإيرانية الطبيعية والطارئة.

يتعلّم الجسم البيروقراطي القيادي في الدول (تنفيذيون وعسكريون) أن في السياسة كلّ الخيارات تُصبح مطروحة لكنها ليست مُتاحة بالضرورة. هناك مأمول وهناك معقول. وحين يُؤتَى بأحدهما على الآخر بتقديرات خاطئة يُصبح الأمر جنونا.

في العلاقة بين الدول تختلف الظروف ومراتبها. كلّ ما يكتنفها من صداقات وعداوات لا تحكمها سوى المصالح. وهي تسير ما بين أهداف وطنية ومصالح وطنية وحصول مدّ وجَزْر ما بين استيعاب الأولى للثانية أو العكس.

أحيانا لا يتم إخضاع الأهداف الوطنية للمصالح الوطنية (أو العكس) مع وجود معايير أخرى تحكم السياسات الخارجية، وهي الظروف الإقليمية والدولية ومدى الإقدام أو الإحجام للقوى المتنافسة.

فالعالم عبارة عن مجموعة حصص يتقاسمها الجميع. فمن يكون فاعلا منهم يَنَلْ حصّة أوفر من غيره وهكذا دواليك. لكن تلك الحصص أيضا لا تُعَمِّر كثيرا في أيدي الدول ما لم تكن هناك ظروف مساعدة تُبقيها أو تٌسقطها.

هنا تصبح معادلة تالية لهذه القِسمة الصعبة. فالحصص ليست كتلا صمّاء. هي متوزّعة ومتداخلة لحدّ التصاق الوبر بقشرة البيض، وبالتالي تُصبح العلاقات بين الدول هي الأخرى متداخلة ومُتشعّبة كنتيجة لاختلاط المصالح.

هناك خصمان يجتمعان على صداقة طرف ثالث. وهناك حليفان يختلفان على صداقة (أو عداوة) طرف ثالث. وقد تتحوّل تلك العلاقات (قُربا وبُعدا) من نصيب بعض السماسرة ممن هم خارج الدائرة القريبة من الجميع لكي يلعبوا دورا معينا.

أرمينيا وتركيا خصمان لكنهما يجتمعان على صداقة الولايات المتحدة. اليابان والولايات المتحدة حليفان لكنهما يختلفان على موضوع كوريا الشّمالية وميانمار. وقد يلعب الروس والصينيون دور السمسرة بين إيران والغرب. هذه هي المعادلة.

الإشكال أين يكمن؟ هناك مصالح مرئية وأخرى مُضمرة. يجمع بين النّوعين خيط رفيع قائم على زاويتين حسّاستين يحملهما قاع مُضطّرب نتيجة لتناقض المصالح بين الدول ورؤيتها للأحداث. وحين يتمّ التعايش مع القاع يُمكن التحكّم في الزاويتين فيستقرّ الخيط الجامع بينهما.

هنا تجتمع عدّة عوامل للاحتفاظ بأفضل النتائج فيما يخص العائد الوطني. فالدول تحتاج إلى جغرافيا مُتسلّطة، وديمغرافيا حيوية لكنها متماسكة، واقتصاد متحرّك وعنيد، وسياسة خارجية نَشِطة ذات تأثير وتفاعل مناسبِيْن، وعقل سياسي مَرِن قادر على تحيّن الفرص واقتناصها.

كيف نُطبّق ذلك على أحوال الإيرانيين؟ طهران تورّطت في عدّة أنواع من العلاقات الخارجية المُزدوجة. أصبحت خصما لطرف (الولايات المتحدة) يجمعها معه صداقة مع طرف ثالث (ماليزيا/ البرازيل/ أفغانستان مثالا).

وأصبحت حليفة لطرف (تركيا) يجمعها معه خصومة مع طرف ثالث (أرمينيا/ آذربيجان بالضّد). ومارست السمسرة بين دول متعدّدة كالذي جرى بينها وبين كلّ من باكستان والهند، أو بين سورية وتركيا إبّان أزمة عبدالله أوجلان، أو بين سورية والعراق بعد تفجيرات الأربعاء الذي استهدف وزارتي المال والخارجية العراقيتين.

في الجانب الآخر فقد أظهرت طهران سياسة خارجية تستبطن مصالحها الظاهرة والمستترة في آن. وكانت بارعة في الفصل (غير المنهجي) بين المصلحتَيْن إلى الحدّ الذي جعل الخلط بينهما لا يتمّ إلاّ عبر الضروب والتكهّنات الإعلامية والحدس الاستخباراتي.

فلم تعد المبادئ العامّة الإيرانية كالدّين والمذهب والإرث الفارسي والوضعَيْن الإقليمي والدولي مُختلطة مع الأمن والتنمية والعلاقات المستقرّة والتبشير الوطني، وعلاقة كلّ ذلك بالخطط البعيدة والمتوسّطة والقصيرة الأمد المُعَدَّة لتسيير الدولة/ الثورة.

هذا الفصل جعل من إيران أن لا تبدو إسلامية بصورة فاقعة حين تكون داخل الصراع حول إقليم ناغورني قره باغ. وأن لا تبدو شيعية خالصة حين تتبنّى ملفات غير شيعية تتعلّق بأقليات سُنّية حسب الجرد المذهبي، كما حدث في البوسنة والهند وآسيا الوسطى وأوروبا وإفريقيا وما يحدث الآن في فلسطين المحتلّة.

وأن لا تبدو قومية أكثر من اللازم حين تكون أميل إلى الأرمن ضد الأذربيجانيين الذين يتّصلون بهم (غربا) عبر العِرق والقومية كأحد أهم مُكوّنات المجتمع الإيراني. هذه مفارقات يجب أن تُفهم ضمن سياق الفصل غير القطعي بين المصالح الظاهرة ونقيضها.

هذه الأمور تجعل من علاقات إيران بالخارج مُعقّدة ومتشابكة. وهي تُدرك أن هذا التعقيد يمنحها وقتا أكثر. والوقت المُتاح بوفرة يمنحها فرصة الدفع بملفات صغيرة ومتوسطة بغرض إنتاج معادلة جديدة تُراكم التعقيد على التعقيد، فيمنحها مرة أخرى وقتا أكثر حتى تستقرّ الأمور على حال.

بالتأكيد هذا عملٌ شاق تقوم به الدول. لكنها تعلم أنها بهذا تمنح لنفسها ضمانات أوسع. كثيرة هي المرّات التي اشترت فيها طهران سلاحا من روسيا والصين وحتى من الهند بهدف دفع تلك الدول نحو مزيد من التورّط معها في مصالح تكون قادرة على عرقلة مساعي أميركية مُضادة.

هنا تبدو الخلاصة أن معادلات سياسية أكثر من معقدة تحكم ظروف أيّ تحرك عسكري ضد طهران. هذه زاوية واحدة فقط تتعلّق بإدارة الإيرانيين لشئونهم. هناك بالتأكيد ظروف أخرى تتعلّق بظروف الآخرين.

بالتأكيد هناك زوايا أخرى أكثر أهمية تتعلّق بالنواحي الفنية والظروف الجغرافية وتداعيات الضربة السياسية والاستراتيجية على أوضاع كثير من الدول. وهو ما يُمكن التطرّق إليه لاحقا في مقالات أخرى.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2600 - الأحد 18 أكتوبر 2009م الموافق 29 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً