العدد 2317 - الخميس 08 يناير 2009م الموافق 11 محرم 1430هـ

انهيار مشروع الوحدة العربية

لبنان والصراع على هويته (8)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يلاحظ المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني أن النخب المسلمة في غالبيتها ظلت معارضة للتجزئة والانفصال عن السلطنة حتى العام 1915 وكانت تحصر معارضتها في إطار الهيمنة التركية على الدولة وتطالب بالإصلاح وإعطاء حصة أكبر للعرب في توازنات السلطنة الداخلية. أما النخب المسيحية فكانت في غالبيتها تطالب باللامركزية منذ العام 1880 وصولا إلى المطالبة بانفصال العرب عن السلطنة وتشكيلهم دولة قومية مستقلة عنها. ويربط كوثراني بين الموقف السياسي والنزعة الدينية. فالنخبة المسلمة كانت تخاف على السلطنة من الانهيار حتى لا تنهار كل الأحلام الوحدوية الأخرى العربية أو السورية، بينما كانت النخبة المسيحية تجد في السلطنة سدا قويا في وجه الطموحات الاستقلالية فأخذت تنظر للانفصال باكرا منذ العام 1905 في اتصالاتها السياسية مع العواصم الأوروبية.

على أي حال لم تظهر النزعة القومية كتيار سياسي في لبنان والمشرق العربي إلا بعد الحرب العالمية الأولى. واقتصرت على خط ايديولوجي لا جماهيري رفعته بعض النخب المثقفة (مسيحية ومسلمة) في اتجاهين متناقضين الأول يطغى عليه اللون المسيحي ويطالب بتثبيت استقلال جبل لبنان. والثاني يطغى عليه اللون الإسلامي ويطالب بالوحدة مع سورية كخطوة لابد منها للوصول إلى الوحدة العربية الشاملة.

بقي التيار القومي مجرد خط سياسي محدود التأثير تقوده طليعة من المثقفين إلى أن أعلن «لبنان الكبير» فانشق على نفسه إلى خطوط سياسية انسجمت كثيرا مع انتماءات النخبة الدينية والطائفية والمذهبية. إلا أن الأساسي في المعادلة الجديدة هو انكفاء تيار الوحدة الإسلامية وتراجع تيار الوحدة العربية وبداية بروز تيار الوحدة اللبنانية مستفيدا من وجود «دولة» سياسية - قانونية معترف بحدودها وسيادتها.

كان لابد من أن تتكيف التيارات السياسية مع الظروف الجديدة. فحصلت محاولات لإنعاش الجمعيات والأندية التي تأسست في طرابلس وبيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإعادة هيكلتها مجددا على أساس الاعتراف بالتقسيمات الدولية للمنطقة وتحوير بعض أهدافها الوحدوية البعيدة المدى وفشلت محاولاتها جميعها.

في الوقت نفسه تسلحت دول الحلفاء بالنصوص التي سبق وألغتها تركيا في فترة اندلاع الحرب فكرست «الامتيازات الأجنبية» و «نظام الحمايات» بالمادة 438 من معاهدة فرساي التي وقعتها الدول المتحاربة. وأكدت المادة المذكورة حق حركات التبشير في الاستمرار بنشاطاتها في البلدان التي وقعت تحت الاحتلال الفرنسي - البريطاني. وتحرك البابا بيوس الثاني عشر سنة 1922 بالاتجاه نفسه. وتم التوقيع في باريس في 4 أبريل/ نيسان 1924 على اتفاق بين فرنسا والولايات المتحدة أكد في مادته العاشرة حق الدول الكبرى في حماية الإرساليات الدينية وضمانها ورفع التدابير عن رجال هذه «المؤسسات الثقافية التعليمية». ونقلت الحكومة الفرنسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1925 حق الإشراف على المؤسسات التبشيرية التابعة للألمان وجعلتها تحت رقابة الدولة المنتدبة وإشراف المفوض السامي في سورية.

في هذا المناخ الدولي المهيمن كانت التيارات السياسية في لبنان تشهد ولادات وانقسامات بسبب تسارع الحوادث وعجزها عن التكيف مع المستجدات المتلاحقة. حاول تيار وحدة سورية ولبنان تجديد نفسه فجرت الأولى في بيروت في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1927 وفشل في نهاية المؤتمر الاتفاق على برنامج عمل فانفرط عقده. وجرت المحاولة الثانية في القدس سنة 1931 فانعقد «المؤتمر الإسلامي» الذي ضم بقايا أعضاء جمعية «العربية الفتاة» ورجال العهد الفيصلي في دمشق وتضمن البيان الختامي بعض الجمل الرقيقة عن الوحدة العربية ورفض الاستعمار والاحتلال ومؤامرات الاستيطان في فلسطين، وانبثقت عنه «لجنة تحضيرية» اتفقت على عقد مؤتمر في بغداد في ربيع 1933 ومنعته بريطانيا ولم يعقد. والتقى بعض الوطنيين العرب في اجتماع مع الملك فيصل في أوروبا سنة 1931 بهدف العمل من أجل اتحاد سورية والعراق، وطبعا فشل المشروع.

تحمس بعض الشباب من الفراغ السياسي ودعا إلى اجتماع سري عقد في بلدة قرنايل (جبل لبنان) في 24 أغسطس/ آب 1933 ضمّ بعض رجال الحركة العربية السابقة وانتهى إلى تشكيل «عصبة العمل القومي» التي دعت في برنامجها إلى الوحدة العربية. عاشت «العصبة» فترة زمنية إلى نهاية العقد، أسست خلاله بعض الفروع في لبنان وسورية والعراق إلى أن اعتقلت سلطات الانتداب قياداتها في 1939 فتلاشت «العصبة» واندمج قادتها لاحقا في أحزاب إقليمية ومحلية أخرى كالحزب الوطني برئاسة صبري العسلي.

في مناخ العصبة الايديولوجي برزت اتجاهات قومية لا دينية تفصل الإسلام عن العروبة وأهم أقلام هذه المدرسة أمين الريحاني وعلي ناصر الدين وعبدالرحمن الشهبندر. ومهدت هذه الأقلام الطريق لاحقا لبروز اتجاهات عربية أخذت تبلور الفكرة القومية على أسس تاريخية - لغوية لا دينية. ومن أبرز أقلام المدرسة المذكورة زكي الارسوزي وساطع الحصري وقسطنطين زريق. وفشلت هذه الاتجاهات الفكرية والسياسية في الصمود لفترات طويلة أو التشكل في مدارس حزبية وتيارات ايديولوجية فاعلة، وكذلك لم تتحول إلى أطر تنظيمية لبنانية فاقتصر تأثيرها في حدود ضيقة في المعاهد والجامعات وأوساط الطلبة.

يكشف صعود الأفكار وهبوطها في العشرينات ومطلع الثلاثينات عن أزمة ايديولوجية عميقة لها صلة مباشرة بتعقيدات الواقع اللبناني الجديد والتحولات السياسية الإقليمية الناجمة أصلا عن التقسيمات القطرية - الكيانية التي ظهرت في المنطقة بعد تفكك السلطنة. إلى ذلك كشفت الأزمة الايديولوجية عن بداية تراجع نخب العائلات التقليدية وتفكك دور وجهاء الطوائف المدينية وبروز نوع من الوعي المختلف تأخرت قيادات تلك المرحلة في استقباله بالسرعة المطلوبة.

كان لابد أن تفتح العلاقات المأزومة بين «الدولة اللبنانية الوليدة» والمجتمع المنقسم طائفيا الطريق أمام نمو تيارات حديثة ومنظمات سياسية من طراز ايديولوجي جديد في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، صمدت في تجاوز الأزمات إلى عقود. فتأسس الحزب الشيوعي الذي انبثق عن اندماج حزب الشعب اللبناني بمنظمة «سبارتا كوس» العمالية الأرمنية، والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه انطون سعادة ونادى بالوحدة السورية الكبرى، وحزب الكتائب اللبنانية الذي انبثق عن جمعية رياضية شبابية قادها بيار الجميل وكان أول محاولة منظمة للتعبير عن الكيان السياسي الجديد.

بعد الثلاثينات جرت في النهر جداول كثيرة، ولكنها كلها واجهت صعوبات في تأكيد الهوية اللبنانية المشتركة. فالانقسام الطائفي عطل إمكانات تطور الفكرة اللبنانية على رغم محاولات «الفلاسفة» تنظير ايديولوجية الكيان ودوره ووظيفته وخصوصية شخصيته الجغرافية والتاريخية. وبسبب ضعف الفكرة وعجزها عن التجدد نجح القانون الطائفي في اجتياح الساحة اللبنانية فاشتد الصراع على تعريف الهوية بين تيار يعرف لبنان بذاته وآخر يعرف لبنان بغيره فولدت «الفكرة اللبنانية» منقسمة حزبيا وطائفيا، وكذلك الفكر القومي العربي وتياراته السياسية والايديولوجية.

ما يحصل الآن من لقاءات في القصر الجمهوري لتوحيد الصف اللبناني تحت سقف معادلة الدولة باتجاه تنظيم علاقتها مع المقاومة وترسيم حدودها مع سورية يوضح طبيعة الأزمة التي أخذت تزعزع صيغة الكيان لمجموعة أسباب أهلية منها تطور التوازن الطائفي وانتقاله ديموغرافيا من ضفة إلى أخرى. فالثنائية المسيحية - المسلمة التي وصفها ميشال شيحا «الثنائية بالغلبة» انتقلت إلى ثنائية مضادة، وهذا التحول في تركيبة الشخصية اللبنانية أخذ يعطي مفعوله التاريخي ويرجح أن يتطور آليا لينتج هوية ثقافية مغايرة لتلك التي تأسست سياسيا في العام 1920 وبذل الجيل المؤسس جهوده الايديولوجية لتبريرها وتفسيرها من غير طائل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2317 - الخميس 08 يناير 2009م الموافق 11 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً