فرحت كثيرا حين تلقيت مجموعة من المكالمات الهاتفية، والرسائل القصيرة، والرسائل الإلكترونية، جميعها تتناول ما ورد في الحلقات الثلاث بشأن الموقف من البرلمان، والمعنونة «جدوى المشاركة الحذرة ومخاطر المقاطعة المطلقة».
أطلقت تلك الرسائل محركات جديدة للحوار يمكن تلخيصها وتصنيفها في خمس فئات رئيسية هي:
1. اختزال إنجازات نضالات الشعب البحريني في البرلمان، وهو مسألة من وجهة نظر تلك الرسائل مناف للحقيقة، ويبخس الجماهير البحرينية حقها، ويقزم تضحياتها.
وهو أمر أوافق عليه تلك الرسائل، لكن ليس هناك في المقالات ما يقول ذلك، أو يشير إليه. وإن كان هناك ما أوحى بها، فمن الضرورة بمكان التوضيح هنا إلى أن المقصود، كما تهدف المقالات، إلى إيصال القارئ إلى حقيقة مفادها أن البرلمان كمكسب سياسي جاء ثمرة نضالات استمرت عقودا من الزمان، قدمت فيها الجماهير البحرينية تضحيات جسيمة روى حكاياتها المعتقلون والشهداء ومن عاش في المنافي.
2. التجني على المعارضة حين تتهمها المقالات بالتنازل طوعا عن حصة لها في مجلس الشورى، الذي كما تقول بعض تلك الرسائل إن المعارضة لم تدع إليه أصلا كي تقرر الرفض.
وإذا كنا متفقين على أن المعارضة لم توجه لها الدعوة، فعلينا ان نتفق أيضا على أن المعارضة لم تبادر كي تنتزع هذا الحق، مدفوعة نحو هذا الموقف بسببين: الأول رفضها لقبول مبدأ التعيين، والآخر تصنيفها للتعيين على أنه «مكرمة» وليس مكسبا سياسيا من حقها الطبيعي التمتع به قبل سواها سواء كان ذلك من خلال القوى السياسية، أو حتى عن طريق الأفراد.
لذلك فقد كانت المقالات تحاول أن تحرض المعارضة كي تخرج من «منهجها التقليدي»، كي يتسنى لها التفكير، كما يقال، «من خارج الصندوق»، أي بشكل إبداعي خلاق، تستفيد من خلاله بكل منفذ من المنافذ المتاحة، كي توسع من فتحتها، ومن ثم توسع من هوامش الحريات السياسية المتاحة.
3. الموافقة الضمنية على الدستور المعمول به اليوم، و»الإقرار المطلق بشرعية الدستور الحالي»، والذي هو، كما تضيف تلك الرسائل، «نسخة مشوهة من دستور السبعينيات، نظرا لكونه، الدستور الحالي، دستورا غير تعاقدي».
المقالات لم تدخل في تقييم الدستور
المقالات لم تدخل في تقويم الدستور أو البرلمان، بقدر ما حاولت أن توصل للقارئ حقيقة مهمة تقول «إن البرلمان ومعه الدستور باتا كليهما من أعمدة العمل السياسي في البحرين، يخطئ من يريد أن ينشط سياسيا، عندما يتجاوزهما أو يغفل ثقلهما في موازين قنوات العمل السياسي». لذلك فقد كانت المقالات تدعو ومن منطلقات «برغماتية صرفة» إلى الاستفادة من البرلمان من أجل توسيع صلاحياته واستخدامه كمنصة شرعية لإجراء المزيد من التطويرات في الدستور المعمول به حاليا.
ترفض المقالات صراحة «حصر النضال بين جدران البرلمان الأربعة»، لكنها وبالقدر ذاته تؤكد على «أهمية النضال من داخل البرلمان»، ولذلك يجدها القارئ الموضوعي دقيقة في تحديد دور النضالات البرلمانية.
4. موقف سلبي مطلق من المقاطعة، وإسقاطها، كما ورد في الرسائل، من قائمة أي مشروع برنامج عمل سياسي، وهنا أتفق مع هذه الملاحظة، من احتمال أن يكون انحياز المقالات نحو الدعوة للمشاركة، قد أفقدها شيئا من التوازن المطلوب للحديث، وبشكل عادل عن أي مشروع للمقاطعة. وطالما نحن بصدد التوضيح، فمن الأهمية بمكان القول إن كلا المنهجين صحيح، لكن عندما يتقيد كلاهما بالشروط الشرعية والقانونية التي يناضل تحت مظلتها.
وطالما نحن نتناول المقاطعة، فليس المقصود هنا خطأ المقاطعة بالمطلق، لكن المقالات ضد ذلك النوع من المقاطعات الهادف إلى شل المؤسسات التشريعية أو تأجيج الصراع ضدها إلى درجة تسهيل نوايا القوى المتربصة للنيل من الإنجازات التي تحققت وإعطائها للانقضاض عليها، رغم كل النواقص التي تشوبها.
هذا الكلام لا ينبغي أن يفهم منه الترويج لأسلوب المقاطعة أو التراجع عن الترويج لمشروعات المشاركة، إذ ل ايزال منطق العمل السياسي، المنطلق من الظروف القائمة، يؤكد أن المشاركة هي المنهج الأصوب والأكثر فعالية. لكن، وكما ورد في عنوان المقال، المطلوب هنا المشاركة الحذرة، التي تتقن مهارات الإمساك بأوراق اللعبة، والقادرة على التحكم في فن إدارة الصراع ولصالح الجماهير دون سواها.
5. افتعال تسييس مؤسسات المجتمع المدني، ولا ترى المقالات أن هناك أية حدود للدور السياسي لمؤسسات المجتمع المدني، التي ينبغي أن يكون دورها السياسي مرسوما وهي لا تزال جنينا في المراحل المبكرة من تأسيسها.
لكن هناك خيطا رفيعا بين «التسييس» وإعطاء «دور سياسي»، فبينما يحول المدخل الأول تلك المؤسسات إلى أوراق بيد المؤسسات السياسية، ويجعل منها «أدوات تنفيذية عمياء» في يد تلك المؤسسات، يحرص المنهج الثاني إلى إعطاء المزيد من الحضور السياسي المستقل من جهة، والرافد من جهة ثانية للحركة السياسية، لمؤسسات المجتمع المدني. وتتحول منظمات المجتمع المدني إلى «مولد سياسي» يفجر طاقات الحركة الجماهيرية، ويضعها على الطريق الصحيح نحو أهدافها النبيلة في آن.
آمل أن أكون بذلك قد مارست شكلا من أشكال الديمقراطية الذاتية التي نقلت إلى القارئ بعض ما ورد من ملاحظات على ما جاء في تلك المقالات، وإن كان أملي أن ينتقل ذلك الحوار من «سريته الإلكترونية» إلى «علنيته الإعلامية»، الهادئة والبعيدة عن الانفعال أوالتجريح، يحكمنا جميعا في ذلك رغبة صادقة في العمل من أجل بناء تيار وطني ديمقراطي مسئول آفاقه واضحة، وتحالفاته استراتيجية، وبرامجه مستقاة من أرض الواقع.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2597 - الخميس 15 أكتوبر 2009م الموافق 26 شوال 1430هـ