إن سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط غالبا ما تواجه ضغوطا وتوترات متضاددة. فيمكن للمتتبع للسياسة الخارجية الأميركية أن يلاحظ تحركات تهدف إلى إشاعة وتكريس الاستقرار السياسي من جهة ومحاولات تهدف إلى تشجيع الإصلاح السياسي من جهة أخرى. أما التوتر الثاني فمرده الحاجة إلى تحديد ما إذا كان الأصح تركيز السياسات على الأنظمة أم على الجماهير، إذ على الرغم مما للولايات المتحدة من عظيم مصلحة في تحقيق الإصلاح السياسي في عموم المنطقة، فإن لها اهتمامات استراتيجية لا تقل شأنا بصدد الانعكاسات والآثار القصيرة المدى التي ستنجم عن تزايد المشاركة الشعبية. فالمستويات العالية من المشاعر المناهضة للولايات المتحدة في مختلف أرجاء المنطقة تعني أن أي انفتاح في الأنظمة السياسية في المنطقة قد يكون من نتائجه ظهور سياسات تعكس التوجهات الشعبية في صيغة علاقات أكثر تباعدا مع الولايات المتحدة. وأية تحركات في هذا الاتجاه يمكن أن تؤدي إلى تعقيد بلوغ الولايات المتحدة أهدافها الإقليمية، بالإضافة إلى الأهداف الأوسع التي ترمي إليها.
وإذا كان البعض يعلق آمالا على دور ما للرئيس أوباما في إشاعة التطور الديمقراطي في المنطقة، فإن دور الأشخاص في العملية السياسية الأميركية رغم أهميته الكبرى في التأثير على قرارات بعينها، فإنه يظل خاضعا للاعتبارات المؤسسية قبل أي شيء آخر. والمؤسسة هنا تعبير يراد به ذلك المزيج ما بين التوجه الفكري والتنظيم والأداء السلوكي استنادا إلى قناعات فكرية وأهداف بعينها فضلا عن توازنات كبرى تحكم علاقة هذه المؤسسة بغيرها من المؤسسات الأساسية.
ترى المؤسسة الأميركية أن زيادة الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط قد تمكن مستقبلا بعض الأصوات الجديدة المعارضة من الاندماج بالحكومة. وبروز القوميين والإسلاميين، أو أي منهما، في حكومات منفردة قد يثير مشاعر الحذر والتطير لدى أنظمة الحكم الأخرى، وإذ يناضل صانعو القرار في الإدارة الأميركية لإيجاد الموازنة الصحيحة بين الاستقرار والديمقراطية، تبقى تلوح على سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة معالم التناقض في معظم الأحيان. فالشعارات الحماسية الداعمة للإصلاح السياسي في المنطقة كانت تطرح دائما مصحوبة بتقبل السياسات اللا ديمقراطية التي يمارسها شركاء الولايات المتحدة، مع التغافل في الوقت ذاته عن أية تطورات ديمقراطية تتحقق على أيدي الخصوم المتوقعين. وحين كان يتحتم على الولايات المتحدة أن تختار ما بين الديمقراطية والاستقرار الإقليمي كان خيارها شبه الثابت هو الاستقرار. وهذا الخيار كانت له انعكاساته على كلا الأنظمة الحاكمة والجماهير في المنطقة.
تفضيل الاستقرار على الدمقرطة جعل الولايات المتحدة تقف على نحو فعال في صف مصالح الأنظمة الشرق أوسطية أكثر منها في صف مصالح الجماهير. والمشاعر المناهضة لأميركا في المنطقة ليست بالظاهرة الجديدة. وقد جعلت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول صانعي القرار في الولايات المتحدة أكثر تحسسا تجاه طريقة فهم الناس للولايات المتحدة ولسياساتها. وتواصل المؤسسة الأميركية إطلاق حملة من البرامج والنشرات الدعائية التي تمولها الحكومة الأميركية تهدف إلى شرح أسلوب الحياة الأميركية وعرض حياة المسلمين الأميركيين بشكل يبرز أجمل ما فيها. وقد افترضت هذه الاستراتيجية ضمنا أن العقبة الرئيسية التي تواجهها الولايات المتحدة في المنطقة هي العجز عن فهم القيم الأميركية والهوية الأميركية. أي أنها تخلص باختصار إلى أن العرب والمسلمين لو عرفونا على حقيقتنا لأحبونا، أو لقل ضيقهم بنا على أقل تقدير. إن العيب الرئيسي في هذا الافتراض، على ما يبدو، يكمن في أن المشكلة المركزية هي الخلاف مع الولايات المتحدة بشأن سياساتها، وليس النقص في المعلومات المتوفرة عن الولايات المتحدة.
ولكن لا ينكر أن سوء الفهم من شأنه جعل الأمور أسوأ بكثير. فالولايات المتحدة تنسب إليها غالبا أسوأ الدوافع على الإطلاق، ويندر أن تذكر واشنطن بخير على أية سياسة تتبعها حتى لو أدت إلى إنقاذ حياة المسلمين، مثل تدخلها في البلقان.
كما أن الولايات المتحدة تفضل الاستقرار على التغيير في الشرق الأوسط لقناعتها أن القادة في المنطقة يواجهون عددا من التحديات لحكمهم. وبوصف أكثر دقة، تحديات لقدرة الحكام على الاحتفاظ بروابط مع الولايات المتحدة أو تقوية هذه الروابط. فإن الأحزاب السياسية الوليدة، والصحافة التي تنعم بقدر أكبر من الحرية، وباقي عناصر المجتمع المدني النامي آخذة كلها في تقليص هيمنة الحكومات على السياسة بعد أن كانت في يوم ما هيمنة مطلقة بلا قيود. ويكون من نتائج هذا أن القادة يغدون أقل مرونة في سياساتهم الخارجية، وربما يأخذون في الاستجابة للضغوط الشعبية أكثر من ذي قبل.
ومن هنا فإن الولايات المتحدة لا تناصر-حتى- اتخاذ إجراءات محدودة لتقاسم السلطة لأن ذلك-من وجهة نظرها- يحمل معه محاذير تزايد المعارضة والتنظيمات المناهضة للأنظمة، وهذا قد يؤدي إلى تعاظم خطر حدوث تبدل الأنظمة أو زيادة زعزعة الاستقرار على الأقل.
كما ترى واشنطن أنه ستكون لعمليتي التحرر والدمقرطة آثار عميقة على الأمن وعلى المصالح الأميركية في البلدان التي تحكمها حكومات موالية للولايات المتحدة. وعلى الرغم من عدم توفر معلومات كافية، فإن استفتاءات أجرتها مؤسسات أميركية ذات خبرة مثل «بيو» أوحت بأن الكثير من المواطنين في المنطقة يعادون سياسة الولايات المتحدة.
إن إتاحة المجال أمام مشاركة شعبية أكبر في صناعة القرار سوف تمكن هؤلاء المواطنين من الضغط على حكوماتهم لكي تعمل على الحد من تعاونها مع واشنطن، لاسيما فيما يتعلق بالسياسات التي تعتبر مؤيدة لـ ”إسرائيل”. كما أن استمرار العنف في المناطق الإسرائيلية والفلسطينية من شأنه أن يزعزع الاستقرار أكثر فأكثر ويؤدي إلى توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وأوثق حلفائها الإقليميين ويؤدي إلى انفضاض الأنظمة الصديقة من حول واشنطن.
باحث في العلوم السياسية، مدير مركز الكنانة في القاهرة، والمقال ينشر بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2597 - الخميس 15 أكتوبر 2009م الموافق 26 شوال 1430هـ