«لا أستحقها». ردة فعل الرئيس الأميركي باراك أوباما العفوية على نبأ إعلان فوزه بجائزة نوبل للسلام تشبه تلك التي عبّر عنها الكاتب المصري نجيب محفوظ حين أبلغ عن فوزه بجائزة نوبل الأدبية. فالروائي كان قد توقف منذ عشر سنوات عن إصدار الكتب واستغرب إعلان فوزه بأعلى جائزة عالمية تقديرية عن عمل لم يفعله. حينها أوضحت اللجنة أن اختياره يعود إلى روايات كتبها وأصدرها في خمسينات القرن الماضي. والجائزة التي أعطيت له هي تقدير رجعي لأعمال سابقة.
فاز محفوظ بنوبل للآداب بمفعول رجعي ما أعاد إليه تلك الحيوية التي كان يحتاجها لمواصلة أعماله التي كان من الصعب أن ترتقي إلى فترة شبابه بسبب تقدمه في السن.
«أنا لم أفعل حاجة» التي قالها محفوظ تشبه كثيرا ردة فعل أوباما «لا أستحقها». فالرئيس الشاب لم يفعل ما وعد به وهو لايزال يكافح أجهزة الضغط (اللوبيات) التي تترصده وتتعقبه لمنعه من تحقيق حلم «التغيير».
حتى الآن كل ما فعله أوباما يصنف في باب النوايا الحسنة والرغبات الطيبة. وهذا برأي لجنة نوبل خطوة تستحق التشجيع لمواصلة مهمته الصعبة. والجائزة التي أعطيت له ليست لأعمال سابقة كما هو حال الروائي محفوظ وإنما لأعمال طموحة يتوقع أن يبادر إلى فعلها.
فوز أوباما بنوبل للسلام تختلف لأنها لا تقوم على فكرة «المفعول الرجعي» وإنما تراهن على المستقبل (مفعول تقدمي) تريد تشجيعه على تطوير عزيمته لمتابعة الطريق من دون تردد أو خوف من تلك العصابات (المافيات واللوبيات) التي تحطيه في البيت الأبيض وواشنطن.
هل يفعلها أوباما ويكسر جدار الصمت ويتحدى التقاليد؟ مشكلة الرئيس الشاب محكومة بالكثير من الاعتبارات. فهو من جانب نجح في كبح عجلة تيار «المحافظين الجدد» وأوقف سياسة كارثية كادت أن تطيح بموقع الولايات المتحدة ودورها الدولي. وهو من جانب كشف عن استداد للمصالحة والاعتذار والبدء من جديد في ترويض العلاقة مع العالم الإسلامي وأوروبا وآسيا وروسيا وإفريقيا.
حتى الآن نجح أوباما في تعطيل حركة سير سلفه جورج بوش ولكنه لم يتوفق في تأسيس خط مستقل يضمن حركة المرور على طرف موازٍ من دون اصطدامات مؤذية. فالرئيس الجديد فضح العهد السابق وكشف عن وجود آلية أميركية قادرة على ابتداع رؤى للإنقاذ تنطلق من قواعد نظرية لا تتعارض في الجوهر مع الكثير من المفاهيم الإنسانية والقيم البشرية المشتركة. وهذا بحد ذاته يشكل إنجازا ثقافيا لأنه على الأقل أشاع تلك الأجواء التي تبشر بالخير وتفتح ذهن الولايات المتحدة على بدائل يمكن تحقيقها.
هناك أمل. ومجرد أن يكون أوباما ساهم في نشر الوعد بالحلم فهذا يشكل ضربة للرئيس السابق وخطوة افتراضية تحتمل المراهنة عليها حتى لو فشل ميدانيا في تحقيقها. وفوز الرئيس الحالي بجائزة الأمل تقارب مشهد فوز الرئيس الأميركي السابق وودرو ولسون في العام 1919 بالجائزة نفسها. الرئيس ولسون آنذاك زرع بذور الأمل في عالم محطم خرج حديثا من كارثة الحرب العالمية الأولى. أميركا آنذاك كانت الوعد والحلم والمستقبل وشكلت للعالم تلك الفرصة والنموذج الإنساني البديل عن القارة الأوروبية التي نشرت جيوشها وحروبها في الكرة الأرضية إلى جانب علومها ومعارفها واختراعاتها واكتشافاتها.
شعوب العالم غير الأوروبي وقفت في تلك اللحظات الصعبة والمتهالكة والمنهكة مع مشروع ولسون وأفكاره وفلسفته ووعوده وأحلامه. فالرئيس الأميركي آنذاك انتقد السياسة الاستعمارية الأوروبية وناشد دول القارة القديمة بإعطاء الشعوب استقلالها. شعار ولسون الإنساني ومطالبته بحق الشعوب في تقرير مصيرها جذب العالم نحو الولايات المتحدة، حين بدأت البشرية آنذاك تتحدث عن نموذج إنساني بديل لا يطمح بالاستعمار والاستغلال والاحتلال ونهب الثروات وإذلال الإنسان.
حق الشعوب في تقرير مصيرها
وقف العالم كله آنذاك مع ولسون ومبدأ «حق الشعوب في تقرير مصيرها» معتقدا أن الولايات المتحدة دولة مختلفة عن أوروبا وهي مزدهرة وتتمتع بالمساحة والسعة والثروات والاستقرار ولا تحتاج إلى سرقة خامات إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لتطويعها وإعادة استخدامها في التصنيع.
البشرية (العالم غير الأوروبي) لم يكن لديها في مطلع القرن العشرين خيارات بديلة. فالاتحاد السوفياتي كان في بداية عهد الثورة البلشفية ويعيش حالات من الفوضى والاضطراب الأهلي ويطرح شعارات إنسانية جميلة ولكنه لا يتمتع بتلك القدرات الخاصة التي تمتاز بها الولايات المتحدة لتحقيقها. ولهذه الاعتبارات الموضوعية والذاتية (الايديولوجية) توجهت أنظار الشعوب نحو الحلم الأميركي وذاك الوعد الذي طرحه ولسون في برنامجه للتغيير.
المراهنة كانت صحيحة نظريا لأن البدائل كانت قليلة ومحصورة بين الخيار الأميركي أو الخيار السوفياتي أو القبول بالنموذج الأوروبي (الاستعماري) ضمن شروط تخضع لمعادلة القوي والضعيف أو المتبوع والتابع.
الصدمة السياسية - الثقافية حصلت لاحقا. فالشعوب التي توقعت الكثير من الرئيس ولسون اكتشفت لاحقا أن مبدأ «حق الشعوب في تقرير مصيرها» يمكن تفسيره على وجوه مختلفة. فهو من جانب يضغط على أوروبا للتخلي عن مستعمراتها وإعطاء الدول استقلالها السياسي ولكنه من جانب آخر كانت هناك مجموعة لوبيات أميركية (مافيات عسكرية) تخطط لتعبئة الفراغات وإعادة احتلال تلك المواقع التي تنسحب منها الجيوش والشركات الأوروبية.
«تقرير المصير» الذي تحول إلى مبدأ عالمي ساهم في إشعال ثورات استقلال وشجع حركات التحرر على خوض الكفاح الوطني للانفصال عن أوروبا. إلا أنه عمليا لم يمنع تلك القارة الأوروبية من الانزلاق مجددا في حرب عالمية ثانية أدت إلى دمارها وانهيار هيبتها ولم تستطع الخروج منها لو لم تقدم الولايات المتحدة مساعدات عسكرية هائلة تتوجت بإرسال جيوشها لتحريرها من قبضة هتلر والنازية.
بعد نهاية الحرب تعولم الدور الأميركي حين تقدمت الولايات المتحدة بمعونة نقدية- اقتصادية بهدف إعادة إعمار القارة وتأسيس قواعد عسكرية ضخمة وجاهزة لوجستيا حتى تتموضع جيوشها وتنتشر في معظم الدول الأوروبية. وشكل هذا الضعف الأوروبي مناسبة لنمو حركات التحرر والاستقلال والانتفاضات والثورات ما أدى إلى انسحاب أوروبا رويدا واعترافها بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
بين نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية عاشت البشرية ذاك الوعد (الحلم الأميركي) اعتمادا على قراءة وجدت في الولايات المتحدة ذاك الملاذ الآمن والبديل التاريخي عن نموذج أوروبي تآكل بفعل الزمن ومتغيراته. ولكن الحلم انكشف لاحقا عن جوانب خفية من ذاك الوعد حين أخذت أميركا تتجه إلى تبني سياسة الاستعمار الجديد (الأمبريالية) بصفتها تشكل خطوة اقتصادية تقنية في التعامل مع الشعوب المقهورة التي خرجت لتوها من قبضة أوروبا.
ولسون يستحق نوبل للسلام كذلك أوباما حتى لو لم يفعل الشيء الكثير مما وعد وما هو مطلوب منه. فالمبدأ (حق الشعوب في تقرير مصيرها) صحيح وهو كان يستحق المراهنة والتضحية وعدم التفريط به وتشجيعه كما تأملت لجنة نوبل في العام 1919. الآن وبعد 90 سنة من التجربة المُرة الأولى تتأمل لجنة نوبل من أوباما أن يصحح الخطأ ويعود بالولايات المتحدة إلى الصواب والجادة القويمة.
هل ينجح الرئيس الشاب والواعد في مهمته الصعبة؟ أوباما متواضع فهو تقبل الهدية وأحال قيمتها النقدية إلى المؤسسات الخيرية معتبرا أنه لم يفعل شيئاَ ليستحقها كما كانت ردة فعل نجيب محفوظ حين أبلغ النبأ. ولكن أوباما أشار إلى نقطتين: الأولى أن الجائزة أعطيت لتشجيعه على عدم التراجع عن وعده بالأمل والتغيير. والثانية أن الجائزة لأميركا وبداية اعتراف بأنها لم تخسر رسالتها ومهمتها وأنها لاتزال تتمتع بموقع الزعامة الدولية وتلك القدرات التي تساعدها على تحقيق الحلم.
تعليق أوباما أنه لا يستحقها لا يعني أنه لا يستحق الجائزة. فهو فعلا يستحقها لأنه على الأقل أوقف ذاك الوحش عند حده وكشفه وفضحه. أما ما هو مطلوب منه يبقى مجرد رجاء يستحق المراهنة كما حصل مع الرئيس ولسون. ولسون فشل ميدانيا ولكنه نشر فكرة إنسانية لاتزال حيوية حتى الآن... وأوباما نشر الكثير من الأحلام والوعود ولكن التغيير لم يحصل. والتغيير مجرد احتمال وهو أيضا مفتوح على الفشل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2592 - السبت 10 أكتوبر 2009م الموافق 21 شوال 1430هـ