في صدر الإسلام الأول اختلف الصحابة الكرام على حرف واحد في إحدى سور القرآن، كما يذكر المؤرخون، حتى هدّد بعضهم بحمل السيف قائلا: «لتلحقنّها وإلا حملت السيف على عاتقي حتى تلحقوها»... وكان ذلك الخلاف يشكل لب مشكلة ابتليت بمعاناتها البشرية عبر العصور... حتى الآن، ألا وهي قضية توزيع الثروة واقتسام المال.
«أبوذر والحق المر»
هذا هو عنوان كتيّب قديم للكاتب «محمد جلال كشك»، أوجز فيه مأساة أبي ذرٍ (رض). وأبوذر لم تبدأ شهرته إلا بهجرته إلى «أم القرى» أيام الكفاح ضد الوثنية العربية الكبرى ليتعرف على من يكون محمد (ص)، بعد أن سمع عن مبعوثٍ جديدٍ ظهر بمكة يدعو إلى التطلع نحو السماء والترفع عن عبادة الأحجار. جاء من قبيلة «غفار» المجهولة التي لم يعرف عنها غير قطع الطرق على الآمنين والإغارة على المسافرين ونهب أموالهم ... وانتهى به الامر اسما لامعا في التاريخ.
عندما استأثر معاوية بالشام وبنى قصر الخضراء احتج عليه بقوله: «إن كان من مالك فهو إسراف، وإن كان من مال المسلمين فهي الخيانة». وتفتّق ذهن معاوية عن فكرة غير ذكية، فأرسل له مالا ليسكته، لا أذكر كم كان المبلغ، لعله عشرة آلاف درهم، بعملة ذلك الزمان الغابر، فلم يصبح الصباح حتى استقرت الدراهم في جيوب الفقراء والمحتاجين.
واستمر أبوذرٍ في تمرّده على نهج القبائل العربية التي جدّدت نفسها تحت عباءة الإسلام الحنيف، فوقف يعارض ما رآه انحرافا عن نهج الحق وابتعادا عن الإنصاف في توزيع الثروة، واقتسام الأموال طبق أسسٍ جديدةٍ لم يسمع بها في مدرسة محمد أيام الجهاد ومقارعة كبرياء قريش... وقف في جبهة لا يقوى على السير فيها إلا الأقلون، وعندما لمح محاولة لحذف حرف واحد (الواو) من القرآن وقف بالمرصاد، لأن حذف هذا الحرف سيضع حدا فاصلا بين الذين يكنزون الذهب والفضة من قريش وبين كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله، من أهل الكتاب، وبالتالي يبقى وعيد السماء بكيّ «جباههم وجنوبهم وظهورهم»، مختصا بهؤلاء دون أولئك القرشيين الذين خلقوا من طينة أخرى، المباح لهم كل شيء، الذين وضع القانون ليطأوه بأقدامهم «الطاهرة»، وخلقت البلدان بساتين لسمرهم. ويمكن لكلٍ منكم قراءة الآية رقم 34 من سورة التوبة، لتعرفوا ما يمكن أن يتركه حذف حرف الواو من تحريف كبير على مدلول الآية الكريمة، في تلك الواقعة المشهورة في التاريخ.
المهم أن أباذرٍ الذي وقف في وجه التحريف لا يساوم ولا يداهن، انتهى به الامر منفيا طريدا شريدا في صحراء الرَبَذة، تسفّ عليه الرياح الهوج، مصداقا لنبوءة الرسول: «تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث يوم القيامة وحدك». ولما لفظ أنفاسه الأخيرة احتارت معه مرافقتاه، زوجه وابنته، لعدم وجود كفنٍ يستره في قبره، فإذا مدتا تلك الخرقة على وجهه انكشفت رجلاه، وإذا مدتاها على رجليه انكشف وجهه.
كانت تلك هي الخاتمة الفاجعة لأحد أنبل الثوار في تاريخ البشرية، الذي لو أنصفه المؤرخون لرأوا فيه أول من عارض التبذير واللعب في المال العام، وأول من رفع شعار «من أين لك هذا»... قبل أن يرفعه الفرنسيون بألفٍ ومئتي عام!
ومات ذلك الصحابي الجليل لا يملك قيمة كفن، فيما مات بعض رفاقه وكنوزهم من الذهب والفضة تكسّر بالفؤوس. لو بعث أبوذرٍ في هذا الزمان، ماذا كان سيقول؟ كيف سيتصرف؟ ما هو تعليقه لو أجريت معه مقابلة صحافية عن بلادنا العربية والاسلامية؟ ماذا سيقول إذا رآى النواب المؤتمنين على مصالح العباد والبلاد والذين يفترض فيهم مراقبة المال العام وهم يقبلون العطايا في الخفاء؟ وماذا سيقول عن بعض الصحافيين الذين تصدّوا للدفاع عنهم، واستخفوا بكل من انتقد هذه الظاهرة، ووقفوا مدافعين عنها واستنبطوا لها الأحكام «الشرعية» وفصّلوا لها العباءات المزركشة حتى وصلوا بالنكتة إلى آخر المدى بعزوها إلى تقاليد الدول العريقة في الديمقراطية كمميزات قانونية واستحقاقات شرعية؟!
في روايةٍ نقلها بعض المؤرخين أن أحد الوصوليين من علماء أهل الكتاب ممن دخلوا حديثا في الدين الجديد وقف مدافعا بوجهٍ صفيقٍ عن التقسيم الجائر للثروة، وكنز الأموال... كأنه محامٍ مأجور، فما كان من أبي ذر الثائر النبيل إلا أن صرخ في وجهه: «أتعلّمنا ديننا يابن اليهودية»؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 319 - الإثنين 21 يوليو 2003م الموافق 21 جمادى الأولى 1424هـ