يتهيأ الحزب الحاكم في تونس (التجمع الدستوري الديمقراطي) لعقد مؤتمره. ويعتبر ذلك على الصعيد المحلي - على رغم انشغال التونسيين بالتخفيف من حرارة الصيف - حدث سياسي مهم لأكثر من سبب. فهذا الحزب - الذي كان يسمى في عهد الرئيس بورقيبة «الحزب الاشتراكي الدستوري» يحكم تونس منذ لحظة استقلالها في عشرين مارس/ آذار 1956 وقيام الدولة الوطنية، اذ لم يعرف التونسيون بمختلف أجيالهم حزبا آخر تمكن من من الوصول إلى السلطة، أو استطاع أن يصعد أحد أعضائه إلى الحكومة أو أي موقع آخر مؤثر داخل مختلف أجهزة الدولة. الشخصية السياسية المستقلة الوحيدة التي فتح أمامها باب الوزارة. كان محمد الشرفي الذي تحمل مسئولية وزارة التعليم. وعلى رغم بقائه مدة خمس سنوات في الحكومة، فإن تجربته أثبتت أن حزبا تعود على الانفراد بالحكم لا يستطيع أن يتعايش طويلا أو يطمئن لأي «غريب» نجح في الدخول إلى المطبخ السري للسلطة.
من جهة أخرى يكتسب مؤتمر «التجمع» أهمية خاصة لأنه يشكل خطوة متقدمة نحو موعد 2004 الذي شغل الطبقة السياسية ولا يزال منذ أكثر من سنتين. هذا الموعد سيشهد انتخابات رئاسية من المتوقع أن يفوز فيها الرئيس بن علي بولاية رابعة بعد أن تم تحرير الدستور الذي كان يشكل عقبة قانونية وسياسية، اذ أصبح بإمكان الرئيس المباشر الترشح لأكثر من دورة أخرى، لا يمنعه من ذلك سوى سقف السن الذي يجب أن يقل عن 75 عاما عند تقديم الترشح.
عندما تولى الرئيس بن علي الحكم في صبيحة السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987، توقع الكثيرون أن تكون أولى قراراته حل الحزب الدستوري الذي بقي يعلن ولاءه للرئيس بورقيبة والبورقيبية إلى آخر لحظة بقي فيها «المجاهد الأكبر» يحكم. لكن احتياج الرئيس الجديد إلى جهاز سياسي قادر على تأطير المجتمع وتسيير الإدارة، جعله يصرف النظر عن مشروع تأسيس ما سمي يومها بحزب رئاسي، ويقرر الاحتفاظ بحزب له ثقل وتاريخ وخبرات في التعبئة والتنظيم. وحتى يكون هذا الحزب قادرا على الاستجابة لحاجيات المرحلة الجديدة، أخضع لعملية جراحية دقيقة كللت بالنجاح، إذ تم تجديد كوادره بنسبة قاربت الثمانين في المئة، والاحتفاظ بعدد مهم من رموزه السابقة التي غيرت ولاءها بعد أن أدركت أن المرحلة البورقيبية قد استنفدت أغراضها ولم يعد رمزها قادر على التمييز والحكم. وهكذا يعود الفضل إلى الرئيس بن علي في إنقاذ الحزب الدستوري من الاندثار، بعد أن شاخ وترهل وانقطعت صلته بالجماهير وأصبح في مرحلة الثمانينات هيكلا أجوف لا روح له أو إرادة، ينتظر من يعلن وفاته. أما الذين التحقوا بصفوفه فهم أصناف متعددة، حركتهم دوافع مختلفة تتفاوت بين رغبة البعض من أبناء الحزب في إصلاح ما أفسده الدهر، وصولا إلى من كان دافعه الانتهازية والبحث عن موقع في سلطة حرم من خيراتها وامتيازاتها طيلة المرحلة الماضية، مرورا بمن اعتقدوا بأن صيغة (التجمع) والبيان التاريخي الذي تأسست عليه المرحلة الجديدة يسمحان بفرصة استثنائية للمشاركة في تغيير الأوضاع في البلاد.فتحويل الحزب إلى «تجمع» كان يوحي في البداية باحتمال أن يصبح إطارا واسعا وقادرا على أن يضم تيارات فكرية وسياسية متعددة، قد تتطور إلى أشبه بصيغة المنابر التي عرفها (الحزب الوطني في مصر) خلال المرحلة الأولى من حكم السادات. وفي هذا السياق قرر عدد من اليساريين الذي مروا بتجارب تنظيمية وسياسية كانت في معظمها من إفرازات «أقصى اليسار»، لقد ظنوا بأنهم يمكن أن يشكلوا تيارا مؤثرا في هيكل ظنوه أنه يفتقر إلى القدرة على التنظير، وإدارة الصراعات الفكرية والسياسية مع الخصوم، وخصوصا الإسلاميين منهم . لكن بعد فترة من التحاقهم اكتشفوا بأن للحزب قيادة تحميه وترعاه، وأن الوافدين عليه من المشارب الأخرى، عليهم التكيف والانضباط وإثبات الولاء، إذا أرادوا البقاء والاستمرار ضمن تجربة الحزب الحاكم. فالتجمع عنوان لحزب موحد، له آلياته وطقوسه و«استراتيجيته» للحفاظ على الحكم. لهذا لم يكن من المفاجئ عندما انسحب البعض، وطرد من حاول معاكسة التيار، واندمج البقية اندماجا كليا، وإن ندر من تمكن من احتلال مواقع في الصف الأول.
عندما عادت الحياة إلى «الحزب الحاكم» رحبت بعض أطراف المعارضة بالأمر، اعتقادا منها بأن ذلك من شأنه أن يحقق الاستمرارية والاستقرار السياسي. بل إن بعض هذه الأطراف ذهب إلى حد القول إن حزبا حاكما قويا من شأنه أن يساعد على دعم الديمقراطية وتعميق التعددية. ولكن في خط مواز حاولت هذه الأحزاب أن تنافس «التجمع الدستوري» في كسب ثقة الرئيس بن علي، بمحاولة إثبات كونها أقدر على مساعدته في إدارة شئون البلاد. ولا شك في أنها أخفقت في ذلك، اذ بقي الحزب الدستوري هو الأداة السياسية المعتمدة، والمحتكر للدولة حكومة وإدارة، ولجميع المؤسسات التمثيلية أو البينية مثل البرلمان والبلديات، بل والمسيطر على الجانب الأكبر من الفضاء العام من جمعيات ووسائل إعلام وقنوات اتصال بالمواطنين. ونظرا إلى الانعكاسات السلبية التي ترتبت عن ذلك على الحياة السياسية، عادت كل الأحزاب تقريبا إلى رفع شعار قديم يتمثل في المطالبة بفصل الحزب عن الدولة. وهو مطلب يعتقد بعض السياسيين بأنه من المستبعد أن تقع الاستجابة له حتى بشكل محدود، في ظل انخرام موازين القوى الحالية. وإذ يتهم بعضهم حزب (التجمع) بالالتفاف على المشروع الرئاسي والجذب إلى الوراء وقتل الحياة السياسية، يعتقد آخرون بأن «الحزب الحاكم لم يعد حاكما» وأن «تراجع أدائه السياسي يعود إلى تقلص عدد السياسيين داخله وسيطرة الإداريين أو التكنوقراط عليه». على رغم هذه التباينات بشأن تقييم دور «التجمع الدستوري الديمقراطي» وأدائه وقدراته الحقيقية، فإن الثابت أن هذا الحزب مستمر في الحكم، وأن المراقبين المحليين لا يتوقعون حدوث مفاجآت ذات أهمية كبرى في مؤتمره القادم الذي سيتمحور بشأن دعوة الرئيس بن علي إلى الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة. ما يريد أن يعرفه الكثير من السياسيين هو: هل أن القيادة السياسية للتجمع الدستوري والبلاد، ستجعل من هذا المؤتمر نقطة انطلاق للشروع في اتخاذ إجراءات من شأنها أن تخفف من حدة الاحتقان والإحباط، وتبدأ في إعادة ترتيب الأوضاع العامة، تجاوبا مع رغبة، وأخذا في الاعتبار التحولات الضخمة التي تشهدها المنطقة بعد كارثة العراق، أم أن «التجمعيين» سيدفعون في اتجاه الاعتقاد بأنه لا توجد حاجة إلى ذلك، وأن ما يراه المعارضون للحكم «جمودا سياسيا» هو من وجهة نظر أنصار الحزب الحاكم «مظهر من مظاهر الاستقرار وشعور غير سوي لدى معارضة عاجزة عن الفعل وغير موضوعية في أحكامها؟»
العدد 318 - الأحد 20 يوليو 2003م الموافق 20 جمادى الأولى 1424هـ