العدد 317 - السبت 19 يوليو 2003م الموافق 19 جمادى الأولى 1424هـ

ديمقراطية الاستعمار... وأزمة الضمير العربي!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

فجر الغزو والاحتلال الاميركي - البريطاني للعراق ازمات عدة، منها ما هو سياسي ومنها ما هو عسكري، بل واقتصادي وثقافي... الخ.

لكن أهم ما فجره في - رأينا - هو الازمة المتحكمة التي اصابت الضمير العربي، ذلك الضمير مازال يتغابى عن حقيقة ما جرى في العراق، قبل وبعد الغزو الاجنبي، وإن بدا منقسما على نفسه واستمر حتى اللحظة.

أزمة الضمير العربي - التي يتحمل مسئوليتها المثقفون بالدرجة الاولى - تجاه الشعب العراقي، بدأت مبكرا، حين صمت صمتا قاتلا، عن نظام حكم ظالم ودموي، استباح شعبا عريقا وانفرد به وأعمل فيه كل صفوف القهر، ودفعه إلى مهاوي الحروب والمغامرات، وإلى مهاوي الفقر - على رغم الثراء المعروف - انتهاء بمصادرة الحريات، بل إلى المذابح الجماعية والمقابر الجماعية، التي بدأت تتكشف الآن بعد سقوط هذا النظام... وهي جريمة ضد الانسانية لن تسقط بالصمت أو بالتجاهل أو التقادم...

الجانب الآخر من ازمة الضمير، وخصوصا ضمير المثقفين في بلادنا، يكمن في ان الذي خلص الشعب العراقي من هذه المأساة الانسانية هو الاستعمار الاجنبي، بعدما تخلى الجميع - وخصوصا العرب الاشقاء والاصدقاء والجيران - عن واجبهم على الاقل في وقف مساندة ذلك النظام، ومداهنته ومهادنته على مدى عقود طويلة ومريرة، حتى حدث الخراب والدمار...

وها هي جيوش الاستعمار الانجلو اميركي تحكم العراق، مزهوة بأنها حررت بلدا عربيا مهما من مستبده وقاهره، وتدعى انها تعمل لاقامة حكم ديمقراطي بعدما فشل العراقيون والعرب أجمعين في اقامته عبر التاريخ الحديث، بينما نجحت شعوب افريقية وآسيوية ولاتينية أخرى...

ومرة أخرى يقف الضمير العربي إياه، اما مترددا وإما حذرا وإما مكسوفا خجلا من تتالي الحقائق وتداعي التطورات امامه بكل سلبياتها وايجابياتها، الامر الذي استثار بعض المثقفين العراقيين - وخصوصا الذين اكتووا بنار النظام الغارب - فاتهموا الضمير العربي عموما والمثقفين خصوصا بالتخلف والانحياز للاستبداد وعبادة كل دكتاتور، وهو الأمر نفسه الذي عبر عنه كثير من المثقفين والسياسيين الغربيين في اكثر من مناسبة!!

ونظن ونحن نتحدث هذه الايام كثيرا وطويلا عن صوغ خطاب ثقافي عربي جديد، ينطلق بعيدا عن سلبيات الماضي ويتجاوز اخفاقاتنا الكثيرة نحو مستقبل اكثر حرية ورحابة وديمقراطية، يجدر بنا ان نتعمق في اصل الموضوع لنقطف ثماره، ونعني اخفاقنا جميعا في اقامة ديمقراطيات متطورة وراسخة تبني الانسان ماديا ومعنويا، اقتصاديا، تنمويا، سياسيا وفكريا، ومن ضرورة اصلاح الحال العمل منذ الآن على تحقيق مثل هذه الديمقراطيات، تجنبا لمآسي الماضي وسلبيات الحاضر، وبحثا عن اسباب الاخفاق وعوامل النجاح في ظل مصارحة ومكاشفة كاملة...

ومن باب المكاشفة والمصارحة نقول: إننا فعلا امام ازمة ضمير ذات شقين واضحين...

أزمة ضمير بسبب الصمت الطويل على جرائم انسانية بشعة ووقائع استبداد وفساد، جرت وتجري من جانب نظم حكم جائرة وظالمة شرسة ضد الشعوب المغلوبة على امرها - أو المستسلمة المخدرة - ووصل الأمر إلى حد التواطؤ بالصمت أو المشاركة والمساندة والتبرير، كما حدث مع النظام العراقي السابق...

وهذا ما يهاجمه بعنف الآن قطاع كبير من المثقفين والشعب العراقي...

أزمة ضمير مقابلة بسبب قبول البعض - وخصوصا في العراق - بالتدخل الاجنبي وعودة الاستعمار بقوته العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لاسقاط النظام السابق، تحت دعاوى كثيرة، أهمها التبشير بالديمقراطية.

وهذا ما يؤيده قطاع كبير من المثقفين العراقيين في حين يعارضه قطاع كبير آخر من العرب...

وعلينا الآن ان نخرج سريعا من ازمة الضمير هذه بأقل الخسائر، وان نعترف صراحة بأن هذا كله ناتج عن تراكم ثقافي - اجتماعي عام يستسهل التبرير والتسويغ حتى للظلم والقمع، كما هو ناتج - بالتوازي - عن ادراك عام بأن طبيعة النظم العربية الحاكمة - قديما وحديثا - اسقطت الحريات واحتقرت الشعوب، واعتمدت الاستبداد والانفراد بالسلطة والثروة منهجا موحدا وفلسفة للحكم، ومن ثم فكلها - تقريبا - التقت مع النظام الصدامي في المنطلقات الاساسية الحاكمة، ومن أهمها فكرة الحاكم المعروف بشيخ القبيلة «التراثي الفلكلوري أو العصري الشكلي»، وكذلك فكرة العصف بالحقوق والعسف بالحريات وتفصيل القوانين الجائرة، وتعطيل اي تطور ديمقراطي، فضلا عن الاستهتار بمطالب الشعوب، مقابل الخوف والخضوع لاول ضغط اجنبي...

الآن بعد الاعتراف، ينبغي العمل للتخلص من هذا الارث المهين...

ومن ثم يبقى الجزء الآخر من القضية التي نطرحها اليوم، وها نحن نبلوره في سؤال محدد: هل سمعتم او قرأتم أو عرفتم استعمارا اجنبيا اقام ديمقراطية حقيقية في اية مستعمرة احتلها؟!

في حدود قراءتنا لعلوم السياسية والتاريخ، نعرف ان ذلك لم يحدث ولن يحدث، اللهم إلا الديمقراطيات المزيفة والشكلية التي تخدم المستعمر وتحقق مصالحه، من دون ان تخدم الشعوب وتدافع عن حقوقها وحرياتها ومصالحها، كما حدث في جمهوريات الموز بأميركا اللاتينية مثلا... بل إن الديمقراطية الاكبر في العالم الثالث - ونعني ديمقراطية الهند - لم تحقق عمليا وفعليا إلا بعد خروج المستعمر البريطاني، وتولي أبناء البلاد الحكم وتطوير المؤسسات المدنية التي كان الاستعمار يجندها فقط لخدمته، ناهيكم طبعا عن دروس تاريخية اخرى في مصر والجزائر والمغرب، بل في العراق نفسه، الذي يختزن في ذاكرته الوطنية وتاريخه العريق والمتقلب بين الماء والنار، منذ حضارة بابل وآشور قبل آلاف السنين، وحتى سلطة «بريمر» حاكمه الاميركي الحالي، اعظم العبر والدوس التي تفرق تماما بين الاستعمار الاجنبي ومصالحه وسياساته، وبين الحكم «الوطني» اي الداخلي حتى لو كان جائرا ومستبدا، وحفارا للقبور الجماعية، التي لا يمكن لعاقل ان يبررها أو يقبلها ويسكت عن إثمها الرهيب!!

ونثق ان الشعب العراقي الشقيق، بكل عراقته الحضارية والثقافية سيخرج غدا من الدوامة الداخلية الراهنة، التي اعقبت اسقاط نظام جائر واقامة سلطة احتلال اجنبي مكانه، والتي خلطت كل الاوراق بعد ان بعثرتها في هواء من الفوضى والخراب القديم والجديد، وفي ظل الشعور بالحرية التي كانت مقهورة في ظل «الحكم الوطني» المستبد، وجاءت تباشيرها في ظل «الحكم الاستعماري الاجنبي»...

لكن طريق الخروج من هذه الدوامة يحتاج إلى جهود جبارة، سواء من الشعب العراقي بكل فئاته وطوائفه العرقية والدينية والطائفية، أو من الشعوب العربية الاخرى التي يجب ان تتحمل مسئوليتها التاريخية في هذا الصدد، ومن دون اللجوء لابراء الذمة، أو الوقوف في صفوف المتفرجين المنتظرين المتقاعسين...

ولعل من أهم واجباتنا ان نفتح كل ابواب ونوافذ الحوار مع كل فئات الشعب العراقي الآن وفورا، «ومن دون الاعتراف بالاحتلال الانجلو اميركي وبكل نتائجه وسياساته وأفعاله»، ليس فقط غسلا للضمائر العربية المعذبة، ولكن اسهاما مع شعب شقيق في إعادة تأسيس دولته التي تتعرض للاحتلال والتفكيك، وفي اقامة تجربة ديمقراطية حقيقية نابعة من طين بغداد والبصرة والموصل، مروية بمياه دجلة والفرات، مرعية بوعي وطني طالما تمتع به العراقيون جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، حتى وإن دهمتهم الكوارث والغزوات والمذابح!

ونظن أن من اقسى المواقف واشدها عسرا، موقف الشعب العراقي خصوصا، والشعوب العربية عموما، حين ترى الآن الحلف الانجلو اميركي ينفرد تماما بالعراق شعبا ووطنا، دولة وثروة، حاضرا ومستقبلا، فينسج له ما يريد وما يحقق مصالحه الاستراتيجية، بينما الجميع - عراقيين وعربا - مازالوا في الصفوف الخلفية للمتفرجين أو السلبيين المذعورين...

لكن... تبقى في النهاية الدروس امامنا بالعشرات، نختار منها خمسة نلخص بها حوارنا في الآتي:

اولا: لم ولا يبني الاستعمار الاجنبي - قديما او حديثا - نظاما ديموقراطيا حقيقيا في مستعمرة احتلها، ولكنه يبني الهيكل الذي يحقق اهدافه ويحمي مصالحه ويخدم سياساته، ولن تستطيع اميركا بكل جبروتها أن تقنعنا بأنها ستجعل من العراق جنة الديمقراطية من الشرق الاوسط، ولن تعمينا دعاوى «المتأمركين العرب»، عن رؤية الحقيقة!!

ثانيا: نتحمل نحن جميعا، وتتحمل «النظم الوطنية» العربية المسئولية الكاملة، اولا من الفشل في تحقيق معادلة التنمية - الديمقراطية، وثانيا عن عودة الاستعمار، لأنها تسببت فيما نعانيه من اوضاع متدهورة متخلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، الأمر الذي برر وسهل التدخل الاجنبي...

فهل يقنعنا «المبررون العرب» بغير ذلك!!

ثالثا: اثبتت تجارب كل الشعوب السائدة والبائدة، وكل الكتب الصفراء والحمراء والخضراء، ان الديمقراطية ليست منتجا مستوردا من خارج الحدود، وإلا ظلت نبتة غريبة سرعان ما تذبل وتموت، لكن بناء الديمقراطية النابعة من ارض الوطن هي الاصل، لا تنبت ولا تزهر إلا بعمل داخلي جاد واصلاح وطني حقيقي، بعيدا عن خدع التجميل الشكلي أو التزييف الدعائي...

رابعا: ازمة الضمير التي بدأنا بها هذا المقال، لا تستدعي مجرد التفسير والتبرير أو حتى الاعتذار، لكنها تستدعي ضرورة الانتقال سريعا من مرحلة جلد الذات وتعذيب النفس إلى مرحلة اكثر ايجابية، وهي اطلاق العنان للخيال البناء ولحرية الرأي والتفكير امام جميع الاجتهادات، بحثا عن خطة انقاذ لبلادنا مما تعانيه من تدهور وتخلف وفساد، واصرارا على اصلاح الاوضاع وتعديل الاتجاهات، ووضع الاسس الرواسي الراسخات لبناء ديمقراطي وتنمية حقيقية بيدنا وليس بيد اميركا!!

خامسا: تبقى تجربة العراق بكل موازنتها وقوتها، من مرارة الاستبداد السابق إلى قسوة الاحتلال اللاحق، واحدة من أهم التجارب الانسانية امامنا، علينا ان ندرس بجدية اسبابها ونتائجها، ليس فقط انصافا للشعب العراقي المقهور، ولكن استفادة منها، حتى لا تتكرر مرة أخرى، بل حتى نتخلص من مثيلاتها وشبيهاتها، وهذا أمر يستدعي إدارة حوار قومي واسع وعميق وهادئ، بعيدا عن الصخب السياسي الراهن، بكل شعاراته الزائفة وال

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 317 - السبت 19 يوليو 2003م الموافق 19 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً