أعربت مصادر أميركية عن اعتقادها بأن الطريقة والشكل اللذين جاء عليهما مجلس الحكم في العراق، الذي عينته سلطة الاحتلال الأميركي يوم الأحد الماضي، يكشف بجلاء افتقاد الحكومة الأميركية وخصوصا القيادة المدنية لوزارة الدفاع (البنتاغون) لأية خطة لفترة ما بعد الحرب على العراق التي أسفرت عن الإطاحة بنظام حكم الرئيس العراقي صدام حسين واحتلال العراق، إذ هيمنت على مجلس الحكم المعين الوجوه ذاتها التي ارتبطت أكثر من عقد مع البنتاغون واليمين الجمهوري ووكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه). وقد جاء تشكيل مجلس الحكم وسط تصاعد حال عدم الاستقرار في العراق إذ تفقد قوات الاحتلال عددا من جنودها يوميا بين قتيل وجريح في هجمات حرب عصابات متصاعدة، فيما يؤكد كبار المسئولين في البنتاغون ارتفاع فاتورة كلفة الاحتلال إلى 4 مليارات دولار شهريا فيما أن انسحاب قوات الاحتلال يبدو بعيدا وقد يستغرق سنوات غير معروفة.
ويؤكد مسئولون أميركيون حاليون وسابقون وخبراء عدم وجود تخطيط حقيقي لفترة ما بعد الحرب على العراق. ونقلت مجموعة صحف «نايت رايدر» الأميركية عن مسئول كبير في البنتاغون قوله إن فشل القيادة المدنية للبنتاغون في تحديد أهداف محددة قصيرة أو متوسطة أو طويلة المدى من أجل الاستقرار في العراق وإعادة الإعمار بعد الإطاحة بحكم الرئيس صدام حسين قد ترك القادة العسكريين الأميركيين في حال من عدم التأكد بشأن عدد وأنواع القوات التي سيحتاجونها بعد الحرب. ويعتقد مسئولون أميركيون ممن تحرروا من الأوهام اليوم أن فشل القيادة المدنية في البنتاغون التي يهمين عليها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز في تطوير مثل هذه الخطط ساهم في الفوضى السائدة حاليا في العراق.
وقال مسئول سابق في البنتاغون ـ يعمل حاليا مستشارا فيها ـ وهو يرثي لهذا الوضع: «كان بإمكاننا أن نقوم بعمل أفضل بكثير». وقال مسئولون حاليون وسابقون: «على أية حال، إن المسئولية في النهاية لضمان أن يكون التخطيط لفترة ما بعد صدام مفترضا لكل التعقيدات المحتملة تقع على رامسفيلد ومستشارة بوش للأمن القومي كوندليزا رايس».
يذكر أن مجموعة التخطيط في البنتاغون التي يوجهها وكيل وزارة الدفاع للشئون السياسية دوغلاس فيث تشمل محافظين متشددين تبنوا منذ زمن طويل فكرة استخدام القوات العسكرية الأميركية للإطاحة بالرئيس صدام حسين، وان المسئول اليومي لهذه المجموعة كان ويليام لوتي، وهو ضابط سابق في البحرية الأميركية عمل في مكتب نائب الرئيس الأميركي ريتشارد تشيني قبل التحاقه بالبنتاغون.
وأصرت هذه المجموعة على أن تقوم بالعمل على طريقتها تنفيذا لاستراتيجية وهمية تأمل بأن تحول العراق إلى حليف للكيان الصهيوني، وإزاحة تهديد كامن لتجارة النفط في الخليج، وتطويق إيران بأصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها. وكانت المشكلة هي أن المسئولين بوزارة الخارجية الأميركية والـسي آي إيه اعتقدوا أن هذه الرؤية مليئة بالثغرات لدرجة سيئة وغير عملية، ولذلك فإن المخططين في البنتاغون استبعدوا ببساطة منافسيهم من المشاركة.
وقد اراد فيث ولتوي وغيرهما في البنتاغون وضع أحمد الجلبي على رأس سلطة يقيمونها في بغداد. واعترف الرئيس السابق لمجلس سياسة الدفاع التابع لمكتب رامسفيلد ريتشارد بيرل بأن تنصيب الجلبي كان هو الخطة، وقال في مقابلة معه: «إن وزارة الدفاع اقترحت خطة تهدف إلى أن تتمخض عن وضع عدد جوهري من العراقيين المتوافرين للمساعدة في الفترة التي تلي الحرب فورا»، وأضاف «لو لقيت هذه الخطة قبولا لكنا الآن في وضع أفضل بكثير». وقال بيرل الذي يعتبر من أشد الداعمين للجلبي: «إن اللوم عن أي فشل في التخطيط يعود إلى وزارة الخارجية ووكالات أخرى التي عارضت طريق الجلبي».
وقال مسئول أميركي كبير طلب عدم الإفصاح عن هويته إن المسئولين في البنتاغون كانوا «متيّمين» بالجلبي؛ لأنه دافع عن إقامة علاقات طبيعية مع «إسرائيل». واعتقدوا أن ذلك سيرفع عن اللوحة أحد التهديدات العربية الرئيسية المتبقية لأمن «إسرائيل». وأضاف أنه علاوة على ذلك فإن الجلبي كان المفتاح لاحتواء تأثير الزعماء الإسلاميين الراديكاليين في إيران والمنطقة لأنه كان سيقدم قواعد في العراق للقوات الأميركية. وهذا سيكمل تطويق إيران من القوات العسكرية الأميركية حول الخليج وأصدقاء أميركا في روسيا وآسيا الوسطى.
ويرى مطلعون أن الفشل في إجراء مشاورات موسعة بين كبار المسئولين الأميركيين بشأن ما ينبغي عمله في العراق بعد الإطاحة بنظام حكم الرئيس صدام حسين قد حرم المخططين من فوائد احتياطي كبير من الخبرة التي تم اكتسابها من عملية حفظ السلام وإعادة الإعمار في «الدول المدمرة من البوسنة حتى تيمور الشرقية». فقد تجاهل المخططون في البنتاغون على سبيل المثال جهدا استمر ثمانية أشهر بقيادة وزارة الخارجية الأميركية للإعداد لليوم الذي يلي الإطاحة بالنظام في العراق. فلم يتم التقيد بتنفيذ مشروع «مستقبل العراق» الذي اشتمل على عشرات العراقيين المهنيين في الولايات المتحدة وأوروبا و17 وكالة أميركية حكومية بما في ذلك البنتاغون، والاستراتيجيات المعدة لكل شيء من وضع نظام قضائي عراقي جديد إلى إعادة النظام الاقتصادي. إذ أراد أول حاكم عسكري - إداري أميركي للعراق جاي غارنر ضم مدير مشروع مستقبل العراق توم واريك إلى هيئة موظفيه في مكتب المساعدة الإنسانية وإعادة الإعمار في بغداد، غير أن القيادة المدنية للبنتاغون رفضت ذلك. وقال مسئول أميركي سابق إنه «في الوقت نفسه كانت وثائق خطط وزارة الخارجية والسي آي إيه ووكالات أخرى لما بعد الحرب تختفي ببساطة في النفق الأسود في البنتاغون» كما أن خبراء الآثار الأميركيين الذين كانوا قلقين بشأن حماية كنوز العراق الثقافية الهائلة قد صدهم مدنيو البنتاغون من عقد اجتماعات قبل الحرب وبعد ذلك أن تم نهب كنوز متاحف العراق.
ويتفق الكثير من الخبراء والمسئولين الأميركيين على وضع المسئولية عن الإعداد لمرحلة الاحتلال على عاتق مسئولين كبار في البنتاغون أشرفوا على مكتب الخطط الخاصة في مكتب الشرق الأدنى وجنوب آسيا في البنتاغون التابع لدوغلاس فيث، والذين يضم عددا من المحللين الذين سبق لهم العمل مع اللوبي اليهودي الإسرائيلي في واشنطن بقيادة مايكل روبين. وقالت العقيد في سلاح الجو الأميركي التي تقاعدت من مكتب الشرق الأدنى وجنوب آسيا في البنتاغون مطلع الشهر الجاري كارين كوتكوفسكي إنها وزملاءها لم يسمح لهم إلا باتصال ضئيل مع مكتب الخطط الخاصة، وكانوا يبلغون في الغالب من مسئولين يديرون المكتب بتجاهل مخاوف وزارة الخارجية ووجهات نظرها. وقالت: «لقد كنا في وضع منزوعي الأحشاء».
وتحقق مسئولون كبار بوزارة الخارجية الأميركية والبيت الأبيض من روايتها، وذكروا أمثلة كثيرة تم فيها استثناء مسئولين من وكالات أميركية أخرى من اجتماعات وقرارات. وكان الرئيس بوش أبلغ مساعديه عقب لقائه معارضين عراقيين في البيت الأبيض قبيل الحرب على العراق أنه في الوقت الذي يبدي إعجابه بهم فإنه ينبغي عدم تقديم جائزة الحكم في بغداد. ونسب مسئول كبير سابق في البيت البيض إلى بوش قوله: «إن مستقبل العراق لن يدار من أناس ابتعدوا في لندن أو كامبريدج». كما ألغى البيت الأبيض خطة البنتاغون لإيجاد حكومة عراقية قبل الحرب في المنفى كانت تضم الجلبي.
ووضع مسئولون بوزارة الخارجية الأميركية مسودة مذكرة بعنوان «العاصفة الكاملة» محذرين فيها من تطورات مأسوية من شأنها أن تهدد أهداف الغزو الأميركي المقبل. وقال مسئول بوزارة الخارجية الأميركية إن تشيني الذي كان ذات يوم أحد مؤيدي الجلبي أمر البنتاغون بوقف تأييدها للمعارضين العراقيين، ومع ذلك استمر الجلبي في تلقي مساعدة القيادة المدنية للبنتاغون بما في ذلك دعمه بوحدة ميليشيا من 700 مسلح، وقام الجيش الأميركي بنقلهم جوا في أتون الحرب من شمال العراق إلى قاعدة جوية قرب الناصرية على افتراض أنه سيتولى السلطة في الحال، إذ انضم إلى الجلبي مستشار له هو هارولد وود وهو من الصهاينة الأميركيين ويعمل مساعدا لفيث.
ويقول السفير الأميركي السابق الذي ترك في شهر ابريل/نيسان الماضي العمل في مكتب المساعدة الإنسانية وإعادة الإعمار تيموثي كارني إنه «كان من الواضح جدا أنه كان متوقعا أن يكون المعارضون العراقيون جوهر السلطة العراقية المؤقتة». وقال كارني إن السلطات الأميركية «أدركت بسرعة» فور الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين أن الجلبي وجماعته لا يستطيعون تولي المسئولية. وعلى أية حال فإن البنتاغون لم تبتكر خطة بديلة. وقال الكثير من المسئولين الأميركيين المطلعين إنه لو كان لدى القيادة المدنية للبنتاغون خطة مفصلة افترضت مسبقا ما يمكن أن يحدث بعد الإطاحة بنظام الحكم في بغداد فإن مثل هذه الخطة لم تكن منظورة بالنسبة اليهم.
وقد دافع فيث عن موقف البنتاغون إذ رد على أسئلة وجهت اليه عبر بريده الإلكتروني بنفي أن يكون مسئولون في مكتبه قد تلقوا تعليمات بتجاهل مخاوف الوكالات الحكومية الأميركية الأخرى، وجادل بأنه في عملية التخطيط للعراق كانت هناك عملية نشطة من وكالات متعددة تقودها هيئة موظفي الأمن القومي بالبيت الأبيض. وكرر فيث ما كان ذكره في ندوة يوم الثامن من الشهر الجاري من أن المخططين استعدوا لقائمة طويلة من المشكلات لم تحدث قط بما في ذلك تدمير حقول النفط واستخدام العراق أسلحة كيماوية وبيولوجية ونقص في الأغذية وانهيار العملة العراقية وتدفق اللاجئين على نطاق واسع. وقال فيث «إن الحرب بشكل عام تنطوي دائما على نواقص، وليس من الصحيح الافتراض بأن أية مشكلات راهنة في العراق يمكن أن تنسب إلى التخطيط السيئ».
كما أن مسئولا سابقا في البيت البيض قال في معرض الدفاع عن مدنيّي البنتاغون: «إن رايس ونائبها ستيفن هادلي لم يتخذا قط الخطوة المنطقية ـ إن كانت خطرة سياسيا ـ بالاعتراف بأنه يتعين على القوات الأميركية أن تحتل العراق لسنوات من أجل فرض الاستقرار وإعادة الإعمار»، وأضاف «كما أنه تمت دعوة بوش الى الاستمرار في ذلك من دون خطة جدية... حتى نهاية اللعبة... لقد كان هناك إهمال من جانبهم». إلى جانب أن الحكومة الأميركية تركت حلفاءها في الغالبية من دون اطلاع على تفاصيل تخطيطاتها لما بعد الحرب، فعلى سبيل المثال فإن الحكومة التركية وجهت الى الحكومة الأميركية 51 سؤالا بشأن تلك الخطط ليأتي الرد ببرقية في الخامس من فبراير/شباط الماضي في 10 صفحات من وزارة الخارجية الأميركية وضعت مسودتها إلى حد بعيد البنتاغون وتجنبت فيها الرد بوضوح على بعض الأسئلة بما في ذلك إقامة حكومة ما بعد الحرب في العراق، وأكدت البرقية أنه «لم يتخذ قرار بعد»، وقالت كوتسكوفكي: «والجواب مازال قيد العمل ومازلنا نعمل بشأن ذلك، وفي الأساس إنه جواب فارغ»
العدد 316 - الجمعة 18 يوليو 2003م الموافق 18 جمادى الأولى 1424هـ