كان ذلك في العام 1979، عام المخاض والهزة العنيفة التي أطاحت بالكثير. وكنا في أول سنة جامعية لنا، طلابا جددا بكلية الخليج الصناعية، التي تحوّلت إلى كلية الخليج للتكنولوجيا قبل أن تتحول إلى جامعة البحرين. في ذلك العام دعا مجلس الطلبة الشيخ أحمد الوائلي ليحاضر في قاعة الكلية، وهكذا جاء بعد جهدٍ جهيدٍ وممانعةٍ «أمنية» طويلة. وارتقى منصة المسرح ليجلس أول عالم دين في مواجهة طلبة الجامعة. وأخذ يحاضر في ذكرى أربعين الحسين الشهيد (ع). واسترسل متدفقا كالسلسبيل، بلاغة وأدبا وذوبا من العنفوان العذب الجميل.
كان عميد المنبر الحسيني يحدث الحاضرين بلسان الأديب عن الحسين الثائر الخالد عبر الدهور، «الذي مايزال يتمرّغ في تربته»، فوقفت له ابنة أحد السفراء العرب التي كانت تدرس بالكلية، منتفشة الريش كالطاووس، فهي لم تخرج يومها من طور مراهقتها الفكرية الفجة. ظنت انها اصطادت «دليلا» على الخرافية في القرن العشرين، فقالت: «نحن نعرف أن الميّت لا يتحرك في قبره، فكيف تقول ان الحسين يتحرك في تربته؟»... وسكت العملاق برهة ثم قال: «يؤسفني أن تقف طالبة جامعية لتسأل هذا السؤال»، ثم انصبَّ هادرا يحدِّث عن خلود الشهيد والمبادئ السامية التي لا يفقهها المراهقون.
عاش العميد حاملا لواء كربلاء، يقول للناس: هلموا اسمعوا الملحمة، واعرفوا كربلاء، فهي الملهِمة. عاش وبيت السيد الحلي يتردد في صدره، ما أظنه فارقته لحظة تفاصيل انحدار البشرية عندما تفقد رشدها فتتحول وحوشا دونها الكواسر الضارية. وما فارقته ظلال المذبحة الدامية، كأنه كان يرافق السبايا من بنات محمد (ص) تقطع بادية الشام، ويعيش آلامها، فينطق مشبعا بأحزان دافقة عبر القرون:
مشى الدهر يوم الطف حيران لم يدع
عمادا لها إلا وفيه تعثرا
وتجده مرة أخرى يحلّق في الأعالي في ذكرى وفاة علي (ع)، شهيد المحراب. لم يكن يتحدث ولا ينطق، وإنما كان يصب البلاغة العالية الفارهة في الآذان. كان يصنع من الكلمات هياكل ويقيم منها معابد يُسبَح فيها باسم الله. كان يروي التاريخ فيبثه أزهارا تنبت في الصدور. كان وهو يذكر اسم علي يحلق ويحلق فما تدري على أي براق ترتفع في السماء.
عاش الوائلي في كنف هذين العظيمين، فإذا أنشأ شعرا أتى بالمعجز في ذكرهما، فلتقرأ:
غالى يسارٌ واستخف يمينُ
بك يا لكُنهك لا يكاد يبينُ
أبا الحسينِ وتلك أروعُ كنيةٍ
وكلاكما بالرائعات قمينُ
فهما القيثارة المطرِبة... معتبرا نفسه خادما في هاتين الروضتين، معجَبا متيّما مستهاما بأريج الشهيدين اللذين وقف على قبرهما من قبله أبو العلاء نادبا الكون الذي أضاعهما:
وعلى الأفق من دماء الشهيدين عليٍّ ونجله شاهدانِ
فهما في أواخر الليل فجرانِ... وفي أولياته شفقانِ
وفي كنفهما الخالد عاش الوائلي... ومن بركتهما ستظلله أستار الخلود
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 315 - الخميس 17 يوليو 2003م الموافق 17 جمادى الأولى 1424هـ