جميل أن تمتلك الأسرة بيتا حديثا بحديقة غناء زينتها الورود والرياحين تتوسطها بركة سباحة واسعة تطفئ لهيب الصيف الحارق، وعلى جانب من الحديقة الواسعة توقفت تلك السيارات الفاخرة الباهظة الثمن بألوانها المبهرة والتي يمتلكها أفراد هذه الأسرة السعيدة، أما البيت من الداخل فإنه تحفة فنية ساحرة فهو مجهز بأحدث الابتكارات المطورة والمرفهة والمفروشات التي تتغير طبقا لخطوط الموضة. وطبعا حتى تكتمل صورة الأسرة الحديثة يجب أن يرتدي أفرادها آخر الصيحات الغربية وأحدث الأزياء بالإضافة إلى كل ما هو جديد على صعيد الاكسسوارات والرحلات ووسائل الترفيه.
لا بأس، كل هذا جميل وممتع إذا توافر للأسرة الدخل المادي الكافي لتغطية هذه الرفاهية باقتناء كل ما هو جديد وحديث من وسائل الراحة والتسلية والاستمتاع بالحياة، فكل هذا جانب من الجوانب الذي تجعل من الأسرة الحديثة تحيا بهدوء واستقرار وسعادة، ولكن ماذا بشأن الجوانب الأخرى؟ وما دور أفراد الأسرة في إيجاد كيفية للتناغم والانسجام مع كل هذه الحداثة؟ أقصد تحديدا مدى تفاهم الزوجين وتقاربهما الفكري والروحي في إدارة شئون الأسرة. وما دور كل منهما في بناء أسس العلاقة العاطفية والأخلاقية بين الأبناء والمجتمع؟ وهل يلعب كل فرد من أفراد هذه الأسرة الحديثة دوره الأسري الفاعل والاجتماعي والديني كما ينبغي؟ وهل يؤدي جميع أفرادها التزاماتهم ومسئولياتهم المترتبة عليهم تجاه أنفسهم والآخرين؟
إن بيتا كهذا يتطلب وجودا إنسانيا وروحيا مستمرا لجميع أفراده، وتقاربا فكريا ووجدانيا بين الزوجين وبالتالي بينهما وبين الأبناء، أما ان يعيش كل فرد من أفراد هذه الأسرة حياته الخاصة جدا والمستقلة جدا جدا من دون قيود أو ضوابط أخلاقية ومن دون الاستمتاع بذلك الحضور الجماعي للأسرة، فالأب يلهث وراء عالم المادة، والأم تسعى خلف بريق المظاهر، والأبناء في حرية مطلقة وتمزق وجداني، يعبثون ويمرحون بلا قيود أو توجيه، تتخطفهم الشهوات والرغبات من دون واعز من ضمير أو أخلاق ثم يعتقدون أنها الحداثة... الحداثة ـ في نظرهم ـ هي الحرية والتباعد والانفصال الروحي بين أفراد الأسرة!
إن المفهوم الأساسي للأسرة الحديثة هو بالدرجة الأولى شعور أفرادها بالمسئولية كل حسب موقعه، فالأب الحديث هو إنسان على درجة من المشاعر، وهو مزيج من حالات الضعف والقوة والشدة واللين. نعم، لقد انتهى مفهوم الزمن الذي يُحصر فيه الأب بين قيود القوة القاسية المجردة من اللمسة الإنسانية الحانية، ولست أعني أن يتجرد من السلطة والحزم ولكن يوجههما بعقل واتزان متى دعت الضرورة.
إن الأب العصري يشارك في عملية التربية ويلاعب أطفاله ويحملهم على كتفه ويمازحهم ويسمع شكواهم وبالتالي يكسب ودهم وصداقتهم عندما يكبرون... والأم لم تعد تلك المرأة الضعيفة المرهقة بالأعباء والمسئوليات القابعة في عجز وخضوع واستسلام، إنما هي شريكة فاعلة لزوجها في اتخاذ القرارات المتعلقة بالبيت والأولاد... صديقته الواعية لكل الأمور المتعلقة بحياتها كزوجة وبدورها كأم هي على درجة من التفاهم والتدبير والإدارة لشئون الأسرة والأبناء، وهي المسئولة عن التوازن الفكري وأسلوب التعامل التربوي والأخلاقي بين أفراد الأسرة بعد أن تغرس القيم والمثل والمفاهيم وتحدد الرغبات والاتجاهات وتحد من الشهوة والاندفاع.
هي التي تخلق ذلك الاتزان العاطفي بينها وبين الأبناء وتقرب وجهات النظر بينهم وبين والدهم، إنها لمسات حانية تجمع شتات الأسرة الحديثة وليست تجهيزات مادية حديثة، إنها كتلة متماسكة من المشاعر والإحساس بالمسئوليات المشتركة بين جميع أفراد الأسرة وليست أضواء بارقة خادعة تميت القلب والوجدان.
إنني أبارك للأب العصري الذي مزج القوة بالعاطفة والمحبة بالرعاية والتقويم، وجعل من أبنائه نواة قوية لمستقبل أفضل ودفعهم إلى المشاركة الوجدانية الفاعلة في بناء الأسرة والمشاركة في تحمل الأعباء والوعي بكل ما يدور حولهم من قضايا أسرية... إنه تفاعل جميل يجمع بين التجهيزات المادية الحديثة ووسائل عيشها وتفاعلها مع أفكار العصر وتطوره في صورة إنسانية فكرية موحدة مترابطة
العدد 314 - الأربعاء 16 يوليو 2003م الموافق 16 جمادى الأولى 1424هـ