دشن البرلمان في البحرين أعماله وسط جدل كبير بل بالاصح انقسام في الرأي بشأنه. هذا الانقسام الذي تمثل في وجود مقاطعة للانتخابات ومشاركة من الجانب الآخر وهو ما اسهم في نهاية المطاف في اضعاف البرلمان كمؤسسة.
ومع الدعوة الى مقاطعة الانتخابات التي تبنتها الجمعيات الأربع أو ما اصطلح على تسميته بالتحالف الرباعي، انسحبت مقاطعة الانتخابات على الموقف من البرلمان بشكل يتراوح بين ان يكون مطلقا تارة ونسبيا تارة أخرى، وهو موقف امتد في آثاره ليشمل حتى المشاركين بشكل او بآخر أيضا.
لا يتعلق الأمر هنا بصحة موقف المقاطعة او المشاركة او خطأ أي منهما وليس هدف هذه الورقة إقامة جدل في ذلك، بل ان الأمر يتعلق بمفاهيم وتقاليد مازالت لم تأخذ طريقها الى الخطاب السياسي والممارسة لدينا وهي تلك المفاهيم التي تشكل أبرز معضلات الثقافة العامة الموروثة. المفاهيم والتقاليد التي لاتزال تجعلنا رازحين تحت التأثير الهائل «للشحنة» في مقابل الحاجة الملحة والضرورية للـ «المأسسة» في الأداء السياسي.
ان مفردات مثل «دولة المؤسسات» و«مؤسسات المجتمع المدني» تشكل قاسما مشتركا في خطاب الحكومة والمعارضة على حد سواء. واذا كانت الحكومة تلح على «دولة المؤسسات» فإن إلحاح المعارضة على «تفعيل مؤسسات المجتمع المدني»، يؤكد في النهاية ان المدلول النهائي لكلا الامرين واحد: الحاجة إلى العمل المؤسسي.
العمل المؤسسي يحتاج إلى عقلية تحترم «المؤسسة» وتقدمها على «الفرد»، المؤسسة هي الأهم وهي المطلب وهي الباقية فيما الافراد يتعاقبون. وفيما خص البرلمان هذا الصدد، فإن موقف قوى المقاطعة يفصح عن خلط كبير وتشوش بين موقفها من الدستور والموقف من المؤسسة. ان المؤسسة هنا هي احدى ثمار الدستور موضع الجدل، لكن كيف يمكن التعامل معها على رغم وجود هذه الجدل او استمراره؟
عند هذه النقطة بالضبط، يمكن تبيان الخلط الذي اصاب المفاهيم حيال التعامل مع البرلمان. برلماننا الذي جاء من رحم جدل كبير. فهل يتعين علينا ان نتحاشى هذا البرلمان ام نتعامل معه؟ واذا تعاملنا معه، فضمن أية حدود؟ والى أي مدى؟
تحضرني اشارة ذات مدلول يمكن التوقف عندها هي ذلك التصريح الذي ادلى به رئيس جمعية الوفاق الوطني الإسلامية الشيخ علي سلمان عقب انتهاء عملية التصويت في انتخابات الإعادة للمجلس الوطني إذ قال: «المقاطعة انتهت في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول».
من الواضح ان الشيخ كان يعني انتهاء «مقاطعة الانتخابات»، لكن السؤال التالي الذي مازال معلقا منذ ذلك الحين حتى اليوم هو: كيفية التعامل مع البرلمان، أو بالأصح البرلمان الذي تشكل من انتخابات قاطعتها «الوفاق» والجمعيات الثلاث الأخرى.
يتراوح الموقف من البرلمان لدى المقاطعين ما بين المطلق والنسبي، ومن المؤكد ان هناك اصواتا داخل صفوف المقاطعين ترى امكان التعامل في حدود معينة مع البرلمان كمؤسسة دستورية قائمة وهو موقف تمليه احيانا الضرورات العملية. لكن المؤكد ايضا هو ان موقف المقاطعة مازال محكوما بجملة من العناصر الأساسية التي تمنع تشكيل أو بلورة موقف معتدل في التعامل مع البرلمان مع الاحتفاظ بوجهة النظر الأصلية، وهي عناصر لعب الأداء الحكومي دورا أساسيا في تشكيلها.
فمنذ اعلان موقف المقاطعة، تشكل رهان بين الحكومة والقوى المقاطعة حدد مواقف الطرفين اللاحقة، أي الحكومة وهذه القوى. شهدنا بعضا من مظاهر هذا الرهان في الشغف بالأرقام عشية الانتخابات لدى الطرفين. فالمقاطعون كانوا حريصين على تأكيد موقفهم بالنسب والارقام أبرزها حضور مهرجانها بنادي العروبة قبل يوم من التصويت. أما الحكومة فقد مارست الشغف نفسه بالارقام في تركيزها الواضح على نسب الاقبال على التصويت. واسهم هذا كله في تحويل الرهان بين الطرفين الى خطوط نهائية للموقف لا يستطيع أي طرف العودة عنها.
انها للأسف احدى سمات التفكير الشائع لدينا، لدى الحكومة ولدى المعارضة على حد سواء، فالاختلافات سرعان ما تجد طريقها الى ان تصبح مواقف نهائية من دون فسحات ممكنة من الحوار. ويكتسب التشديد على هذه المسألة وجاهته من طبيعة المرحلة نفسها. ففي ذلك الوقت كانت المهمة هي التأسيس للحياة الديمقراطية بعد التوافق التاريخي غير المسبوق على الميثاق الوطني وهو توافق سنؤكد مجددا انه لم يكن من الجائز التفريط فيه بسهولة لأي سبب.
على أية حال، أود هنا تأكيد جملة من العناصر الأساسية المرتبطة بالطريقة التي يمكننا معها وضع البرلمان في مكانه الصحيح من دون مغالاة من أي نوع.
أولا: مهما كانت وجهة نظرنا في المترشحين أو النواب الذين تمكنوا من الوصول الى البرلمان، فهؤلاء وصلوا بالانتخاب ومن أوصلهم مواطنون مارسوا حقهم الدستوري في اختيار ممثليهم. فالمستوى والكفاءة - على رغم اقرارنا بأن المقاطعة ابعدت كفاءات كثيرة من الترشح - أمور لا علاقة لها بالحق الأصلي للمواطن في انتخاب ممثليه بقدر ما هي رهن بتطور المجتمع نفسه.
ثانيا: اغفال هذا العنصر الأول من الممكن ان يؤدي بنا الى نوع من الازدواجية في النظر. فاحترام المنتخب هو احترام لإرادة ناخبيه الذين صوتوا له بالدرجة الأولى. ليس هناك مقياس آخر لاظهار احترامنا لحق الناس وحريتهم سوى احترام خيارهم مهما كانت وجهة نظرنا حياله. وفي نهاية المطاف، فإن هذا العنصر هو المقياس الأهم لاحترامنا لصناديق الاقراع.
ثالثا: على رغم الجدل وعلى رغم وجهة النظر التي تتردد من ان البرلمان ضعيف وضعفه من ضعف النواب، فإن البرلمان كمؤسسة شيء مختلف عمن يحتل مقاعده. ويبدو الخلط هنا بين «الشخص» و«المؤسسة» جليا عندما ينسحب الموقف من الانتخابات والموقف من الاشخاص الى ان يشكل في النهاية موقفا من «المؤسسة» وهو موقف يمكن ان يؤدي بنا الى ازدواج في الممارسة والفهم.
لماذا لا يتحلحل موقف المعارضة قليلا حيال البرلمان؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال بتفصيل مسهب، لكن استقراء المواقف منذ ذلك الحين حتى اليوم سيقودنا الى ملمح أساسي في أداء الحكومة اعتقد انه اسهم في دفع المعارضة دفعا الى التمترس في موقف المقاطعة من دون أي امكان لأن يتحلحل هذا الموقف او ان يتيح لها امكان الخروج بقراءة جديدة تتيح لها اتخاذ موقف مغاير او جديد، اقله موقف يصحح الخلط بين الشخص والمؤسسة.
ان مجموعة القوانين المثيرة للجدل التي اصدرتها الحكومة قبل ان يدشن البرلمان أعماله، اسهمت الى حد كبير في اهتزاز ثقة المعارضة في المستقبل. لا يتعلق الأمر بمراسيم عادية بل بالمرسوم بقانون رقم 56 والمرسوم بقانون رقم 47 عن تنظيم الصحافة والطباعة والنشر. فباستعجالها اصدار هذين القانونين قبل تدشين البرلمان أعماله، اسهمت الحكومة في اضعاف البرلمان كمؤسسة عندما ابعدت عن جدول اعماله هذين المرسومين المتعلقين بأكثر القضايا أهمية وحسما: تصالح المجتمع مع الماضي وتعافيه من آثاره، الخوف على الأداة الأساسية للديمقراطية وهي حرية التعبير.
ان هذين القانونين مازالا يشكلان نوعا من عناصر التأزيم الباقية وهذا لا يمكن إلا ان يقود الى اهتزاز الثقة في المستقبل وهو أخطر ما يمكن ان تواجهه تجربة ديمقراطية ناشئة. فلكي تؤخذ الديمقراطية على محمل الجد فإن ذلك يحتاج الى أمر واحد لا غنى عنه: «الثقة في المستقبل». وهذا مازال يحول بين المعارضة وبين إعادة قراءة مواقفها عموما ومن البرلمان خصوصا، وهو موضوع حديثنا هنا. وهو ما يمنع آلاف النشطاء والناس عموما من اعطاء «المؤسسة» المكانة التي تستحقها مقابل «الشخص» وهو الأمر الذي يجعل عملية ترسيخ «دولة المؤسسات» و«تفعيل مؤسسات المجتمع المدني» أمرا مؤجلا ومهمة لاتزال شاقة
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 314 - الأربعاء 16 يوليو 2003م الموافق 16 جمادى الأولى 1424هـ