باتت معروفة عند القاصي والداني مقاطعة اربع جمعيات سياسية جاءت على خلفية تحفظات هذه الجمعيات على دستور 14 فبراير/ شباط 2002، خصوصا فيما يتعلق بالصلاحيات التشريعية والرقابية الممنوحة للمجلس المنتخب.
ان هذه التحفظات مثلما قادت الى مقاطعة الانتخابات النيابية، كان من الطبيعي أن تترتب عليها جملة من المواقف الأخرى لاسيما ازاء المؤسسة النيابية التي افرزتها هذه الانتخابات ونعني بذلك المجلس الوطني بغرفتيه المنتخبة والمعينة.
وقد تدارست الجمعيات المقاطعة ومن خلال اجتماعات متواصلة اعقبت الانتخابات النيابية هذه المواقف واصدرت في ديسمبر/ كانون الأول 2002 ما أطلق عليه آنذاك مرئيات العمل الوطني في الفترة المقبلة.
وقد تضمنت هذه المرئيات مواقف الجمعيات المقاطعة من جملة المسائل والقضايا الوطنية الحيوية، ومنها الموقف من المجلس النيابي وكيفية التعامل معه، إذ استقر رأي هذه الجمعيات، أنه وعلى رغم أن هذا المجلس جاء على خلفية دستور أثار الكثير من التحفظات والاشكالات، الا أنه من الصعب تجاهل هذا المجلس تجاهلا تماما. وبالتالي لابد من التعامل أو التعاطي مع ما سيثار تحت قبته من قضايا وتشريعات والعمل على اتخاذ الموقف الملائم ازاءها. وقد أكدت الجميعات آنذاك أن هذا الموقف لن يعني وجود صيغ رسمية للتعاون مع البرلمان، كونه جاد نتاج دستور 2002. وانما سيتم التعامل معه على اساس ما سيطرح فيه من قضايا تهم الوطن والمواطنين، وان المطلوب توضيح موقف هذه الجمعيات من هذه القضايا كلما استدعى الأمر ذلك.
ومن ا لمفيد أن نتوقف هنا لحظات لنوضح عدة حقائق تتعلق بأبعاد هذا الموقف ومضامينه، إذ انه وبعكس ما يبدو للوهلة الأول من أنه موقف سلبي من الجمعيات المقاطعة ازاء المجلس النيابي، الا أن الأمر عكس ذلك.
فأولى هذه الحقائق، أن موقف الجميعات المقاطعة يجب أن يفهم على أنه جاء لخدمة المجلس النيابي كمؤسسة دستورية محورية يجب أن تمتلك صلاحياتها التشريعية والرقابية كاملة من دون نقصان، ومن دون تداخل مع المجلس المعين. وكان الحد الأدنى المطلوب هو وفقا لما ورد في دستور 1973 من صلاحيات تشريعية. لذلك كان لابد للجمعيات المقاطعة أن تتخذ موقفا ضاغطا باتجاه تحقيق هذا الهدف.
أي ان موقف الجمعيات من المجلس النيابي كان يصب في خدمة هدف وطني وشعبي محوري وهو العودة الى مكتسبات دستور العام 1973. وبما أن المجلس النيابي المشكل وفقا لدستور العام 2002 جاء منقوص الصلاحيات التشريعية بالمقارنة مع ما ورد في دستور العام 1973، كان من الضروري العمل على عدم تطبيع العلاقات معه لكي لا يفهم هذا الموقف أنه تنازل عن مكتسبات دستور العام 1973.
وثاني هذه الحقائق المتعلقة بالموقف الذي اتخذته الجمعيات المقاطعة من البرلمان يعتبر في موقع أكثر تقدما وصوابا في التصدي لهذه النواقص والعمل على ازالتها. لأن دخول البرلمان سيعني ابتداء الموافقة على هذه النواقص، ثم سيعني ثانيا التكيف التدريجي معها، والتعامل مع ما سيطرح لاحقا في البرلمان من قضايا تشريعية وسياسية واقتصادية حيوية تهم الشعب على اساس هذه النواقص الأمر الذي يعني ان ممثلي الشعب لن يكونوا في وضع تشريعي يمكنهم من التعامل مع هذه القضايا تعاملا صائبا والخروج بحلول جذرية. وثالث الحقائق المتعلقة بموقف الجمعيات المقاطعة من البرلمان، ان هذا الموقف قد اتخذ كما ذكرنا للضغط باتجاه العودة الى مكتسبات دستور 1973، وبالتالي فهو موقف ازاء المؤسسة البرلمانية نفسها، وليس ازاء اعضائها أي أعضاء المجلس الوطني سواء كانوا منتخبين ام معينين. فالموقف مبني على أساس دستوري وليس شخصيا أو فرديا. وتتضح ايجابية موقف الجمعيات المقاطعة هنا انها احترمت اراء من كانوا يرون امكان معالجة النواقص الدستورية من خلال الدخول الى البرلمان على رغم اختلافها مع هذ الموقف. ولا أدل على ذلك من ميثاق التنسيق الذي ضمها مع عدد آخر من الجمعيات التي شاركت في الانتخابات النيابية، إذ وضعت على رأس اولويات هذا الميثاق العمل على العودة إلى مكتسبات دستور 1973 وتطويرها.
ورابعا، ان الجمعيات المقاطعة بنت موقفها في التعاطي مع ما سيطرح تحت قبة البرلمان من قضايا دستورية وسياسية واقتصادية على اساس مدى قرب او ابتعاد هذه القضايا من المطالب الوطنية والشعبية. وهذا يعني انه كلما اقترب هذا البرلمان من تبني اولويات هذه المطالب ونعني بذلك المطالب الدستورية والعودة الى مكتسبات دستور 1973، كلما تزايدت القواسم المشتركة بين الجمعيات المقاطعة والبرلمان. وقد يطرح البعض هنا ان المطالب الشعبية كثيرة ولا تقتصر على المطالب الدستورية، وربما تكون هناك مطالب اقتصادية واجتماعية مطلوب معالجتها كالبطالة والتجنيس والفساد بصورة أكثر اهمية. ونحن لا ننفي هذه المزاعم، الا اننا نؤكد مرة أخرى ان غياب السلطات التشريعية الكاملة عن المجلس النيابي لن تمكنه من التعامل مع هذه الملفات تعاملا سليما، كما انها ستحد من قدراته على ايجاد الحلول الجذرية لها خصوصا في ظل وجود مجلس معين مساوٍ له في العدد والصلاحيات. ولعل موضوع تعامل البرلمان مع مشكلة التجنيس هو اكبر مثال على ذلك، إذ تم تقليص وتحديد مهمات وصلاحيات اللجنة البرلمانية التي شكلت للتعامل مع هذا الموضوع بما لا يبشر بأنها ستتعامل مع هذه المشكلة الخطيرة بالصورة المطلوبة.
ان موقف الجمعيات المقاطعة من البرلمان اعطاها مساحة أكبر لحرية التحرك واتخاذ المواقف الملائمة وفقا لما تقتضيه الوطنية في التعامل مع مختلف القضايا المطروحة.
وعلى رغم صواب الموقف المبدئي الذي اتخذته الجمعيات الأربع من البرلمان، الا أنها اخفقت في تجسيد هذا الموقف بالصورة الصحيحة والمطلوبة على أرض الواقع. لقد تأخرت هذه الجمعيات في وضع برنامجها وآليات عملها حتى اليوم. ويعود ذلك الى جملة من الاسباب الموضوعية ابرزها انشداد الساحة الوطنية خلال الفترة الماضية لموضوع العدوان على العراق، وتأثيراته المتوقعة على وضع تجربتنا الديمقراطية في البحرين، الا ان جانبا من تلك الاسباب يعود الى خلل ذاتي ايضا. وازاء الكم الكبير من القضايا التي اثيرت في البرلمان - واقول اثيرت وليست عولجت - من جانب واخفاق الجمعيات المقاطعة في وضع الآليات الملائمة لتجسيد موقفها في التعامل مع هذه القضايا من جانب آخر، وفتح الباب أمام الاجتهادات غير المنصفة حول جدوى موقف المقاطعة ومدى فاعليته، وخلق نوع من البلبلة والانتقادات حول موقف الجمعيات المقاطعة
العدد 313 - الثلثاء 15 يوليو 2003م الموافق 15 جمادى الأولى 1424هـ