لكي نستطيع أن نقيِّم أداء الحكومة في ظل التجربة البرلمانية الحالية، لابد من تحديد المحاور الرئيسية لعملية التقييم والتي تنحصر بحسب وجهة نظري في المحاور الآتية:
أولا: تجاوب الحكومة مع مجلس النواب.
ثانيا: هل ارتقت الحكومة بأدائها ليتماشى مع حجم الطموحات المعقودة عليها وعلى المجلس وخصوصا فيما يتعلق بالملفات الساخنة؟
ثالثا: مسببات الاخفاق والتراجع في أداء الحكومة ومؤشرات النجاح والايجابية (إن وجدت).
أعتقد بداية أننا في حاجة ماسة إلى تقييم أداء الحكومة على مدى أكثر من ستة أشهر من العمل النيابي الذي ابتدأ مع افتتاح دور الانعقاد الأول من الفصل التشريعي الأول في الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2002.
من دون شك فإن التجربة البرلمانية التي نعيش فصولها حاليا هي نتيجة لمخاض سياسي وتراكمات اجتماعية واقتصادية حافلة بالكثير من الارهاصات والكثير من التراجع على مختلف الصعد، فهناك تراجع بيّن في المجال الاقتصادي ومشروعات التنمية مقارنة بما يجري في دول المنطقة والذي انعكس بدوره على الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتسبب في خلق أجواء غير مؤاتية للحديث عن تنمية اقتصادية مزعومة لم نجد لها موقعا على الأرض، كذلك هي الحال مع الوضع الاجتماعي والسياسي وحجم القضايا العالقة التي مازالت تبحث عن حلول، اذ تشعبت تلك القضايا وتراكمت تباعا على مدى أكثر من ثلاثة عقود من دون بارقة أمل في حلها، بالاضافة الى التخريب الديموغرافي والاجتماعي وحتى النفسي لدى شرائح واسعة من المواطنين الذين باتت مجموعات واسعة منهم فاقدة لأية صدقية في التعامل مع ما يطرح من قضايا وما يترافق معها من حلول نتيجة تجارب سابقة لم تأخذ حقها في التعامل.
هذه مجرد صورة مختصرة عن الوضع السياسي والاقتصادي القائم إبان تشكل المجلس النيابي الجاري، فالقضايا العالقة كبيرة وتشعباتها تكتسي تعقيدات أكبر وحجم التجاوب الحكومي مع ما يطرح من حلول لا يرقى إلى مستوى الطموحات المعقودة أبدا، إذ بقيت مؤشرات وجوه التراجع تلك شاخصة وممسكة بزمام الأمور كما في السابق من دون بوادر حقيقية إلى تغيير تعاملها مع ما يطرح من قضايا. من هنا نجد أن تعامل الجهات المسئولة في الدولة من وزارات وادارات مازال محكوما بالعقلية السابقة ذاتها في التعاطي مع قضايا الشأن العام والمؤشرات على ذلك كثيرة ولا تحتاج إلى من يبحث عنها. يبدو ذلك واضحا من خلال قراءة سريعة لبرنامج الحكومة الذي قدم إلى مجلسي النواب والشورى، فهذا البرنامج لم يرتقِ ليصبح برنامجا قادرا على تشخيص علل الاقتصاد الوطني ووضع الحلول لها، ولم يرتقِ لوضع خطط وبرامج لحلحلة الوضعين الاجتماعي والسياسي ولم يتطرق بشيء من التفصيل إلى قضايا الناس والوطن اليومية والملحة والتي من بينها البطالة والتمييز والتجنيس والفساد الاداري والمالي. البرنامج الحكومي قدم بعض الوعود التي لم تصل الى حد الاقتناع بها مثل الحديث عن زيادة الاستثمارات وحل البطالة وحل المشكلة الاسكانية وقضية التخصيص وغيرها.
في اعتقادي تبقى مسألة تجاوب الحكومة مع المجلس النيابي رهنا بتغيير الكثير من المفاهيم في طرائق التعامل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية باعتبار أن السلطة التشريعية أمر واقع، لا يجب أن يكون التعاون بين السلطتين قائما فقط على توجيهات عليا وإنما يجب أن يدخل في صميم العمل اليومي بين أفراد السلطتين أخذا بتكامل الأدوار على طريق خلق تنمية حقيقية مستدامة، وهنا ننوه بأن هناك جهات داخل السلطة التنفيذية بدأت فعلا في تفهم الدور المنوط بالمجلس النيابي ولكن تبقى عدة جهات - وهي مؤثرة بالمناسبة - تراوح في المكان ذاته، وذلك في اعتقادي يستدعي تغييرا شاملا في عقلية التعامل لدى تلك الجهات وتغيير العقول والنفوس التي أصابها الكثير من الصدأ والوهن وترعرعت في ظل قوانين تمجد الولاء الشخصي بدلا من الولاء للوطن. ولكي نكون أكثر دقة في التحليل دعونا نستعرض بعض المؤشرات، الايجابي منها والسلبي. المؤشر الأول يكمن في حوادث شارع المعارض وكيف تعاملت الأجهزة الحكومية الأمنية مع الحدث وبأية عقلية وخصوصا أن مجلس النواب في حينها كان في بداية خطواته الأولى وكانت اللغة السائدة في التعاطي مع الحدث مرتبكة وتائهة ومتشككة فهي بين سندان الاصلاح ومطرقة ترسبات قانون أمن الدولة.
المؤشر الثاني، هو تعامل السلطة مع مسألة حرية التعبير والنشر وقانون المطبوعات المتخلف بكل مساوئه والذي تعرف الحكومة قبل غيرها بأنه لا يتماشى مع روح الاصلاح ومازال الصحافيون وأصحاب الرأي يجرجرون وبقوة لساحات المحاكم وتحت لافتة تطبيق القانون أيضا.
المؤشر الثالث، هو تعميم ديوان الخدمة المدنية الذي يمنع بموجبه العاملون في القطاع العام من تشكيل نقاباتهم الخاصة بهم وكيف ضاع الكثير من وقت الحكومة والنواب والوطن في سبيل استرجاع هذا الحق الدستوري الواضح، فهل نحن هنا بحاجة إلى إثارة زوابع أمام العمل اليومي المطلبي أم نحن في حاجة إلى تطوير وتفهم الوضع الجديد القائم على روح الاصلاح ولغة التغيير والتطور؟
المؤشر الرابع، هو ما نريد أن نؤكده هنا، في كيفية تطور التعامل مع بعض الجهات ومحاذيره وعقباته، فحين مناقشة موازنة الدولة للعامين 2003 و2004 كانت المعلومات المقدمة إلى اللجنة المالية الاقتصادية بمجلس النواب شحيحة وكان عامل الوقت ضاغطا على الجميع وكانت المعلومات التي نطلبها نحن النواب من الحكومة يتم التعاطي معها في البداية ببطء وتردد واجتماعات واقناع ومع الوقت تطورت لغة الطرفين فقد ازددنا اصرارا وفي المقابل تطور تجاوب وزارة المالية تدريجيا وهذا يثبت ما ذهبنا اليه بشأن عدم فهم الأدوار وتقبل العمل بشكل مغاير عن السابق، وحتى عندما ناقشنا الموازنة وطرحنا مسألة تخفيض موازنتي الدفاع والداخلية وشرحنا مبرراتنا وطالبنا بتحويل الفائض الى وزارات مثل التربية والصحة والشباب والرياضة ووجهنا بمقاومة وحتى لوبي حكومي داخل المجلس... ألم يكن أجدى للحكومة أن تتفهم المصلحة الوطنية؟ فنحن لم نطلب تخفيض الموازنة في الوزارتين المذكورتين جزافا وإنما لدعم موازنات بعض الجهات والوزارات الخدماتية وهذه مصلحة وطنية يجب ألا تعيقها الحكومة كما اعتقد... ولكن هذا دليل آخر على عدم تفهم المسئولين لدور المجلس.
ولكي أكون منصفا أكثر فإن تعامل الحكومة يتطور تدريجيا ولكن ببطء في بعض الوجوه، وأعتقد أننا تعلمنا الكثير من وسائل الضغط والمناورة والحوار، فالتعاطي مع عقليات تعودت على عدم سماع الرأي الآخر يحتاج الى جهود ومتابعة واصرار دائمين... وهنا أرى أن أقدم مثالين عن كيفية اعاقة الحكومة لمشروعات حيوية من دون مبرر، فعندما طالبنا نحن في لجنة الشئون المالية والاقتصادية بتقديم ملف قضية بنك البحرين السعودي - والذي لم نحصل عليه حتى الآن - جاء الرد مواربا وملتويا في تقديري وهو أن ملف القضية لدى النيابة العامة ولا يمكن تقديمه إلى المجلس حتى تستكمل اجراءات التحقيق وهذا رد يشي بالكثير من عدم التعاون فعلى الحكومة أن تعلم بأننا لسنا معنيين باعتبارنا سلطة تشريعية بإدانة الضالعين في ملفات الفساد والاختلاسات، فهناك السلطة القضائية لتقوم بدورها في مثل هذه القضية ونحن دورنا رقابي ومن المهم تأكيد سلامة الاجراءات الرقابية ونجاعتها حيال مسألة من هذا النوع تتعلق بصدقية الوضع المصرفي والائتماني في البلد. أيضا هناك قضية مناقصة الجمارك والموانئ، فالقضية يجب ألا تأخذ أبعادا وتطول لعدة أشهر من دون حل، هناك مناقصة ارست لصالح شركة محلية وهناك بعض الأطراف الذين يدعون تضررهم من كيفية تقديم المناقصة فلماذا لا تؤخذ المسألة بشيء من الشفافية ويتم إنصاف المدعين كافة بدلا من تضخم القضية وضياع الوقت والمال والجهد، وأنا أطرح سؤالا هنا: ماذا سيحدث لو أننا في المجلس النيابي سكتنا مثلا عن المطالبة بتقديم ملف قضية بنك البحرين السعودي ومناقصة الجمارك؟! اعتقد ان الحكومة ستغض الطرف نهائيا، وهذا هو عين الخطأ، فالمسألة هنا ليست توجيه الاتهام بحد ذاته وانما تكريس مبدأ الرقابة وتحقيق مبدأ الشفافية وعلى الحكومة هنا أن تكون مبادرة إلى تقديم الأدلة والحقائق لا التستر عليها، فهذا في حد ذاته يوحي بعدم الحيوية في العمل وعدم فهم الحكومة لدورها المطلوب منها.
ويجب ألا ننسى أن هناك تعاملا من نوع آخر يتسم به الأداء الحكومي وهو في طريقه للتبلور ويشكل ظاهرة صحية يجب الاشادة بها، وأعطي مثالا على ذلك هو قضية خصخصة النقل العام. فقد كانت هناك نية لدى وزارة المواصلات بتسريح أكثر من 160 موظفا يمثلون كامل موظفي النقل العام، وعندما اتصلت بنا اللجنة التحضيرية للنقابة في النقل العام وطرحت تصوراتها ومخاوفها وبصورة فردية معي شخصيا ومع النائب الأول للمجلس عبدالهادي مرهون، وعندما قمنا بعرض القضية بكل أبعادها وكثفنا مطالبتنا عبر وسائل الاعلام بأهمية انصاف العاملين في قطاع النقل العام، جاء الرد هذه المرة سريعا وتم تحقيق تفاهم جيد ربما فاق حتى ما يطمح إليه العاملون في النقل العام وتم انهاء هذا الملف بسلام ومن دون تسريح أحد بصورة قسرية... هذا إذا مثال جيد يجب أن يطور ويتعزز. المثال الآخر الجيد هو استغاثة مدير عام الهيئة العامة للتأمينات أمام مجلس النواب لانقاذ الوضع المالي للهيئة من الافلاس الوشيك، وفيه تأكيد لصدقية المجلس ودوره، وفعلا قام المجلس بتشكيل لجنة تحقيق تحت يدها اليوم جميع الملفات وهي طور البحث والتدقيق من قبل أعضاء لجنة التحقيق ونحن هنا نتفهم جيدا توقيت الاستغاثة ولهجة الخطاب ومضمونه فالمسألة حديث الشارع كما تعلمون.
أيضا أطرح مثالا سيئا هذه المرة على كيفية أداء الحكومة مع ما يطرح من قضايا... فعندما طرحنا قضية التمييز بكل أبعادها على هيئة سؤال لممثل الحكومة كان الهدف هو لفت الانتباه الى خطورة هذا الملف وانعكاساته المستقبلية وأهمية توافر مبدأ دستوري هو مبدأ تكافؤ الفرص، إلا أن الرد وكما توقعناه جاء متهما ايانا بإثارة النعرات وشق الصف وهي كما تلاحظون اللغة ذاتها التي سادت ابان حقبة أمن الدولة، فبدلا من الاعتراف بالمشكلة باعتبارها أمرا واقعا والمطالبة بتعاون الجميع مع الحكومة لحل هذه المعضلة نواجه باتهامات لم تتوقف حتى اليوم. بهذه العقلية لا نستطيع أن نتحدث عن أداء حكومي متطور وايجابي ونحن نعلم أننا في بداية العمل البرلماني ولكن التأسيس لمفاهيم تقوم على الشفافية والمصارحة ضروري لاستمرارية العمل وتأكيد التكامل بين السلطات، وأخيرا فإننا يجب أن نكون منصفين وبنائين حين مماحكة الأداء الحكومي، وأنا أثق بأن تطور الاداء الحكومي سيستمر ولو بشكل بطيء ولكن علينا أن نكون أكثر صبرا وعلى الحكومة قبل كل ذلك أن تكون أكثر صدقية وخصوصا عندما نتحدث جميعنا عن أهمية انجاح المشروع الاصلاحي، فانجاح المشروع الاصلاحي يتطلب ممارسة أكثر ايجابية واخلاصا من دون التفكير في وضع العقبات والمتاريس المعيقة.
وعلينا أن نستفيد من تجاربنا السابقة ومن تجارب الآخرين، فالعالم يتطور من حولنا ولا نريد لوطننا أن يبقى مراوحا في المواقع القديمة ذاتها التي آن لها أن تستبدل بمواقع أكثر تقدما ولابد للحكومة والمعارضة من أن يرتقيا بأدائهما نحو الأفضل وعلينا أن نتيقن بأن ذلك لن يتم بادعاء الكمال والمثالية وانما بممارسة النقد والنقد الذاتي ولابد من ثورة تصحيحية في عمل جميع وزارات ومؤسسات الدولة، وهناك حاجة ملحة إلى تغيير عقول الكثير من المسئولين، فالبحرين كما تعلمون ولادة بالكوادر والعقول الوطنية المخلصة ولا سبيل لغير الأكفاء من البقاء وضخ دماء وكفاءات وطنية تكون رافدا حقيقيا للعمل الحكومي بما يدعم مسيرة الاصلاح ويبقي جذوتها وقّادة
العدد 311 - الأحد 13 يوليو 2003م الموافق 13 جمادى الأولى 1424هـ