العدد 311 - الأحد 13 يوليو 2003م الموافق 13 جمادى الأولى 1424هـ

ازدهار تجارة الرقيق الأبيض والمخدرات

«أحياء التنك » في بغداد تغري المنظمات الإنسانية!

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

ما الذي يدفع بشخص سوي وكامل الأهلية للعيش في مستنقع قذر أو مكب للنفايات... سؤال حائر يقفز الى الذهن ليظل يدوم في مسارب ذاكرتك وانت تتجول في احياء الصفيح أو التنك كما يسميها البغداديون. فالعيش في هذه المنطقة انتهاك صارخ لحقوق الانسان يرتكبه أولئك الذين اختاروا طواعية العيش في هذا المكان البائس.

أطفال حفاة بوجوه كالحة ورؤوس شعثاء مغبرة يملئون أزقة تبدو لمن يراها وكأنها خرجت للتو من العصر الحجري القديم... أزقة ضيقة تخترقها سواقي المياه الآسنة وتفترشها النفايات والازبال التي أصبحت ملاعب لهؤلاء الاطفال البائسين الذين تفشت بينهم امراض كثيرة.

التاريخ والجغرافيا والنفط

حي التنك المؤلف من ثلاثة أحياء هي على التوالي: حي طارق القديم والوسط وحي الشيشان او حي المنتظر كما يسمى حاليا، تبلغ مساحته اكثر من (500) دونم ليشكل حزاما لمدينة الثورة يمتد بمحاذاة السدة الترابية التي انشئت العام 1954 لحماية بغداد من الفيضان. وفي مطلع عقد السبعينات من القرن العشرين بدأت المنطقة التي كانت ومازالت مكبا لنفايات العاصمة بغداد تتشكل لتكون اول مدن الصفيح في دولة تملك ثاني احتياطي للنفط في العالم... أبتدأت أولا بأعشاش متناثرة بنتها أسر مسحوقة نزحت من جنوب العراق لم تستطع دفع الايجار الشهري لمنزل بسيط في مدينة الثورة التي ينتمي سكانها الى الغالبية الشيعية في العراق، ثم اتسعت تدريجيا في أواسط عقد الثمانينات حتى بلغت ذروتها العام 1991 عندما أصبحت قبلة أنظار أولئك الذين جاءوا من مدن العراق المختلفة في أعقاب حرب الخليج الثانية ولم تسمح لهم السلطات وقتها بالسكن داخل العاصمة، كما لم يكن بإمكانهم العودة الى مدنهم لاسباب كثيرة أهمها خوفهم من اتهام ابنائهم بالمشاركة في انتفاضة مارس/آذار العام 1991.

وهذه المنطقة البائسة التي يبلغ عدد سكانها اليوم زهاء ربع مليون شخص تفتقر الى ابسط الخدمات الأساسية... شوارع غير معبدة... انعدام خدمات الماء والكهرباء والسبب بسيط جدا هو انها شيدت خلافا للتصميم الاساسي لمدينة بغداد الصادر العام1971 الذي يحدد شكل واستعمالات الارض، ما جعل منها لغما موقوتا قابلا للانفجار في أية لحظة. وأصبحت بحكم موقعها خلف السدة وخارج نطاق سلطة العاصمة مأوى لقطاع الطرق ومهربي الأسلحة والحبوب المخدرة الذين اضيفت لهم مهنة جديدة بعد سقوط النظام هي تجارة الرقيق الابيض والهيرويين، ووجد فيها القتلة والمجرمون المطاردون بقضايا كبيرة ملاذا آمنا لايكلفهم سوى تلك الاتاوات التي كان يفرضها عليهم بعض البعثيين ورجال الأمن والشرطة في النظام السابق لشراء سكوتهم.

أوكار الملاذ الآمن

هذا الملاذ الآمن الذي لايبوح أهله بأسرارهم إلا تحت تأثير حبوب الهلوسة التي تبدأ جلسات تعاطيها بعد انتصاف النهار أصبح مرتعا خصبا وبحكم تركيبته الاجتماعية لتغلغل أجهزة الموساد وغيره من أجهزة المخابرات العالمية والمنظمات المستترة بغطاء خيري. ففي منطقة الشيشان في حي التنك تعمل الآن منظمة انسانية المانية تحمل اسم (القبعات الخضر) يرأسها شخص اسمه روبرت، وتقوم حاليا بإعادة بناء المدرسة الابتدائية، والغريب ان هذه المنظمة التي يفترض ان أعضاءها ينتمون الى مجتمع مدني متحضر استأجرت لها مقرا دائما في أحد بيوت الحي البائس واستطاعت بسرعة هائلة ان تمد جسور علاقة وطيدة مع الأهالي وذلك من خلال أحد رجال الدين فيها وهو الشيخ سالم الكعبي الذي يدافع بحرارة عن هذه المنظمة ويروج لاهدافها «النبيلة جدا جدا». ويقول إنه ساعدها في اجراء مسح شامل للمنطقة من أجل احصاء عدد الأطفال الذكور بين الخامسة والرابعة عشرة. وعندما سألناه عن أهداف الاحصاء ، قال إنه لا يعرفها او لم يفهمها لكنها كما يعتقد نبيلة.

والى جانب منظمة القبعات الخضر الالمانية تعمل أيضا منظمة (أطباء بلا حدود) التي اختارت المستوصف الوحيد مكانا لتقديم الخدمات الطبية والصحية لسكان حي التنك بمشاركة اطباء عراقيين، لكن هذه الخدمات مازالت ضعيفة جدا إذ ان المستوصف لايفتح أبوابه سوى أربع ساعات في اليوم بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة، بينما الطبيبة البلجيكية التي تشرف عليه تتخذ من أحد فنادق الدرجة الأولى في بغداد مقرا لإدارة المستوصف عن بعد.

ولكي تكتمل مكونات الصورة في حي التنك كان لابد من الغوص عميقا في الواقع الاجتماعي لهذه المنطقة ومعرفة كيف يعيش أهلها عيشة إنسان الغاب في القرن الحادي والعشرين... البيوت هنا لاتعدو كونها زرائب للحيوانات فهي خرائب مبنية من مادة الطين او بقايا الطابوق القديم، سقوفها من القصب او سعف النخيل... وهذه الخرائب على نوعين: الأول يضم غرفة واحدة ومطبخ غير مسقف يستخدم كحمام ايضا وباحة مكشوفة، أما النوع الثاني فيحتوي على غرفتين، وجميع البيوت خالية من حنفيات الماء وان وجدت فهي تعاني الجفاف الدائم ما يضطر السكان الى استخدام مياه الجداول الزراعية لاغراض الشرب والاستخدامات المنزلية ما يجعلهم عرضة للأمراض لاسيما الكوليرا والتيفوئيد والسل وغيرها من الأمراض، أما الكهرباء نعمة القرن العشرين فهي الأخرى غير متوافرة في هذه المنطقة وان وجدت هنا او هناك فقد تمت سرقتها من أعمدة نقل الطاقة الكهربائية المارة عبر المنطقة، وهذه النعمة المسروقة تتحول الى نقمة تذهب بأرواح الأطفال الأبرياء خلال أيام الشتاء الممطرة.

وبعيدا عن خبايا التاريخ وخرائط الجغرافيا في هذه المنطقة، التي كانت في الأصل مزارع للحنطة والشعير يسيطر عليها (عبدحسن المجيد) ابن عم الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين لكن ملكيتها تعود رسميا الى سامي الاورفلي كبير عائلة الاورفلي البغدادية، فإن سكانها يحاولون رسم إمارات البراءة والطيبة وتصوير أنفسهم ملائكة وانهم ضحايا نظام ديكتاتوري، إلا ان المراقب يمكنه اكتشاف الكثير من الحقائق عن طبيعة ونوع الأعمال التي يقومون بها... فالشوارع ممتلئة بالمنهوبات والمسروقات، وفي هذه المنطقة أكبر سوق لبيع حديد التسليح والشيلمان والبليت التي سرقت من مخازن الدولة في أثناء دخول القوات الأميركية بغداد.

يقول بائع الغاز الذي يجوب أزقة الحي حين سألته لماذا تبيع لهم قناني الغاز بسعر مرتفع؟ أجاب بثقة لأني أعرف مصدر أموالهم الحقيقي حتى قبل ان يشاركوا في نهب وسرقة المصارف. ويضيف ان هذه المنطقة كانت باستمرار عرضة لمداهمات عناصر فدائيي صدام من أجل القبض على المجرمين والمهربين الذين ازدهرت تجارتهم هذه الأيام لاسيما تجارة الرقيق الأبيض من الفتيات والشباب الذين تمت سرقتهم من دور رعاية الحوادث ومستشفى الأمراض العقلية القريب إذ تعقد الصفقات في منطقة الباب الشرقي ويتم التسليم في حي التنك

العدد 311 - الأحد 13 يوليو 2003م الموافق 13 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً