«أعتبر ادعاءاتهم شيئا خطيرا وهجوما على نزاهتي، علاوة على أن هذه الادعاءات غير صحيحة وآمل ان يتقبلوا ذلك، أعتقد أنه يجب عليهم قبول الأمر الواقع» رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير.
«إن صدقيتنا في الميزان فإذا ما خضعنا للضغوط فلن تكون لنا صدقية في المستقبل» المدير العام لهيئة الاذاعة البريطانية جريج دايك.
«لقد ضخمت الحكومة تقارير الاستخبارات بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وأضافت إليها لتبرر الدخول في الحرب»، المراسل الدفاعي لهيئة الاذاعة البريطانية في برنامج «اليوم» أندرو كليجان.
إنها أخطر مواجهة بين هيئة الاذاعة البريطانية والحكومة البريطانية، وعلى حد قول طوني بلير فإن ما ذكرته الهيئة عن حكومته هو أخطر تحد لنزاهته وصدقيته طوال حياته السياسية.
كرة الثلج المتدحرجة
في 22 سبتمبر/أيلول قدم رئيس الوزارء البريطاني طوني بلير ملف العراق الى مجلس العموم البريطاني إذ قدم ما يدعي أنه معلومات استخباراتية مؤكدة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وقدرة القوات العراقية على استخدامها فعلا بعد 45 دقيقة من اعطاء الأوامر للقوات المسلحة العراقية، وأكد أن العراق يمتلك وسائل نقل واطلاق هذه الاسلحة الكيماوية والبيولوجية. كما أكد وجود روابط بين النظام العراقي ومنظمة القاعدة، وأن هناك خطورة من انتقال أسلحة الدمار الشامل العراقية إلى أيدى «الارهابيين».
في ذلك الوقت وعلى رغم معارضة ما يقارب من 80 من نواب حزب العمل لخطط الحكومة للدخول في الحرب، وشكوكهم بشأن صحة هذه المعلومات، وخصوصا أمام تأكيدات كل من رئيس فريق تفتيش الأمم المتحدة في العراق هانز بليكس وأمين عام وكالة الطاقة النووية محمد البرادعي، من أنه ليس من دلائل جدية على تملك العراق لاسلحة دمار شامل وبرنامج نووي فعال ووسائل نقلها، فإن حزب المحافظين والحزب الديمقراطي الليبرالي وقفا إلى جانب رئيس الوزراء، والذي لم يجر التصويت على الثقة بالحكومة.
في 2 فبراير/ شباط وفي خضم الاستعدادات المحمومة لشن الحرب، قدمت حكومة بلير وثيقة ثانية، تؤكد ما جاء في وثيقة سبتمبر وتضيف عليها ما تدعيه من أساليب حكومة صدام في اخفاء المستمسكات، وتضليل مفتشي الأمم المتحدة لكي لا يكتشفوا أسلحة الدمار الشامل والبرنامج النووي العراقي.
وفي هذه الجلسة أكد بلير أنه لا فائدة من استمرار فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة، وضرورة عدم منح كبير المفتشين الدوليين هانز بليكس وأمين عام وكالة الطاقة النووية محمد البرادعي المزيد من الوقت كما طلبا.
وبذلك انضم بلير الى بوش في قراره شن الحرب على العراق تحت ذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية وتدميرها ووضع حد لبرنامجه النووي، والذي يهدد الأمن القومي الأميركي، على حد قول الرئيس بوش. في هذه المرحلة بدأت تتسرب تقارير عن قيام الحكومتين الأميركية والبريطانية بتزويد تقارير استخباراتية، وتضخيمها لتسويغ قرار الحرب المتخذ سلفا.
وقد عرض وزير الخارجية الأميركي كولن باول بعضا من هذه التقارير والوقائع في جلسة مجلس الأمن المشهور في محاولة لاستصدار قرار جديد يخول الولايات المتحدة بشن الحرب، وإن فشل في ذلك، فإنه نجح في تضليل الرأي العام الاميركي بشكل خاص وجزء كبير من الرأي العام العالمي.
في 7 مايو/أيار فجر المراسل الدفاعي لهيئة الاذاعة البريطانية أندرو كليجان قنبلته عندما كشف في برنامج «اليوم» الاخباري عن مصدر في الاستخبارات البريطانية قوله ان حكومة بلير عمدت الى اضافة فقرات إلى تقارير المخابرات، وضخمت من أخطار أسلحة الدمار الشامل لتبرير الانخراط في الحرب. كما كشف ان معظم مواد ملف 2 فبراير والذي استندت اليه حكومة بلير لاقناع غالبية النواب لتأييد شن الحرب الى جانب الولايات المتحدة، مأخوذة من الانترنت من دراسة عمرها عشر سنوات لعالم عراقي هو المراشي.
لقد جرت حينها مناقشة حامية في مجلس العموم البريطاني استنادا الى ذلك التقرير على أساس أنه تقرير من وضع الاستخبارات، وعلى رغم معارضة ما يزيد على المئتين من النواب، فقد فاز بلير وتم تفويضه لشن الحرب، استنادا الى تقرير به قدر كبير من التزوير.
بلير يكسب الحرب ويخسر نفسه
يقول المثل: «حبل الكذب قصير»... وهكذا وأمام الادعاءات المتبادلة بين حكومة بلير وهيئة الاذاعة البريطانية، وجب على لجنة العلاقات الخارجية أن تفتح تحقيقا في الموضوع، وتعقد عدة جلسات استماع لكبار المسئولين الحكوميين والمعارضين للحرب والخبراء ورجال الاستخبارات.
بدءا من 17 يونيو/حزيران بدأت جلسات اللجنة المطولة إذ استمعت حتى الآن إلى: وزير الخارجية جاك سترو ومدير الاتصالات بمجلس الوزراء الستروكامبل، رئيس الغالبية البرلمانية وزير الخارجية السابق روبن كول ووزيرة التنمية السابقة كلير شورت، الرئيسة السابقة للجنة الاستخبارات المشتركة الليدي بولين نيفيل جونز، المدير العام لهيئة الاذاعة البريطانية جريج دايك، علماء وخبراء في أسلحة الدمار الشامل والبرامج النووية ومنهم المراشي. وكان يفترض أن تذيع اللجنة تقريرها مساء الاثنين 7 يوليو/تموز، ومن الواضح من خلال قراءاتي لمحاضر جلسات الاستماع ما يأتي:
1- لقد قدمت الاستخبارات البريطانية المعلومات المتوافرة لديها بشأن اسلحة الدمار الشامل العراقية إلى لجنة الاستخبارات المشتركة وهي هيئة تضم قادة أجهزة الاستخبارات ومسئولين سياسيين كبارا منهم السكرتير العام للحكومة ومسئول الاتصالات الستروكامبل ويحضرها أحيانا وزراء، مثل وزير الدفاع ووزير الخارجية.
2- لقد جرى إضافة معلومات غير مؤكدة بشأن قدرة القوات المسلحة العراقية على استخدام هذه الاسلحة خلال 45 دقيقة من صدور الأوامر لها.
3- لقد جرى تضخيم قدرة العراق العسكرية وخصوصا فيما يتعلق بحيازته لاسلحة دمار شامل، ومعامل متنقلة لتصنيع أسلحة كيماوية وجرثومية، وحيازته لوسائل نقل هذه الاسلحة بطائرات من دون طيار وصواريخ ذات مدى بعيد.
4- جرى فبركة العلاقة بين النظام العراقي ومنظمة القاعدة، وقيامه بإمدادها بالاسلحة وامكان امدادها بأسلحة دمار شامل.
المتهم الرئيسي هو مدير الاتصالات بمجلس الوزراء وعضو لجنة الاستخبارات المشتركة الستروكامبل، وواضع «التقرير» المراوغ «dodgy report»، وقد عمل جاك سترو على ابعاد نفسه عن المسئولية في شهادته أمام لجنة التحقيق راميا المسئولية على الستروكامبل، الستروكامبل في استجوابه الطويل أمام اللجنة، وعلى رغم نفيه تهمة التزوير واقراره بعدم اتباع الاجراءات الصحيحة في وضع التقرير المراوغ، فإنه ذكر ان رئيس الوزراء بلير لم يشك في التقرير، ولم يسأله اسئلة تفصيلية عن محتواه وطريقة اعداده، وبذلك فتح الباب لرمي الكرة في ملعب بلير.
المبارزة الأخيرة
أمام محاولة حكومة بلير الاستناد إلى ما تدعيه تقارير الاستخبارات الخارجية البريطانية (MI6)، فقد وجب على رئيس الجهاز السير ريتشارد ديرلف أن ينأى بنفسه عن المواجهة بين حكومة بلير وهيئة الاذاعة البريطانية، وأن يضع الأمور في نصابها، وخصوصا أمام تسريبات معسكر بلير من أن هناك عناصر مخابرات مارقة تتربص ببلير.
وهكذا اجتمع رئيس جهاز (MI6) السير ريتشارد مع كبار مسئولي هيئة الاذاعة البريطانية بمن فيهم المدير العام كريج دايك ومحرر برنامج «اليوم» كيفن ماركس ومقدمه الرئيس جون همفري، إذ أخبرهم بخلفيات المشكلة وأكد لهم أن المخابرات البريطانية لم تعتبر نظام صدام يمثل خطرا داهما على السلم العالمي في حين أكد ان إيران وسورية يشكلان هذا الخطر.
وسيستند كل من المدير العام كريج دايك ومدير الاخبار ريتشارد سامبروك على معلومات السير ريتشارد في اجتماع مجلس أمناء هيئة الاذاعة البريطانية الذي يجتمع اليوم، لاتخاذ قرارات مهمة بشأن المواجهة مع الحكومة، واجراءات ضد بعض المسئولين في الهيئة إذا ثبت لديه خطأ موقفهم.
من ناحية أخرى، فقد أجرى بلير مقابلة خاصة مع صحيفة «الاويرفر» إذ دافع عن المتحدث باسمه الستروكامبل، وكذب رواية هيئة الاذاعة البريطانية وطالبها بالاعتراف بخطئها.
مساء الاثنين 7 يوليو/تموز الجاري كان مقررا أن تصدر لجنة العلاقات الخارجية تقريرها، وحتى لو لم تدن حكومة بلير فقد وقع الضرر... وعلى حد قول الرئيسة السابقة للجنة المشتركة للاستخبارات وعضو مجلس أمناء هيئة الاذاعة البريطانية حاليا مدام بولين: «عندما تذهب إلى الحرب وتقول للناس ان ذلك بسبب وجود خطر داهم للأمن الوطني وبعدها لا تجد شيئا، فإن ذلك يخلق فجوة في الصدقية وهو شيء مضر للديمقراطية».
لن تقف الأمور عند ما تتوصل اليه لجنة العلاقات الخارجية، إذ يمكن أن يفتح تقريرها الطريق أمام استجواب بلير أمام مجلس العموم بكامل هيئته وأمام الحقائق الجديدة التي كشفها رئيس مخابرات (MI6) السير ريتشادرد أو مصدر الاستخبارات لاندرو كريج، فقد يفتح تحقيق قضائي كامل يكشف المستور.
ومما يفاقم الوضع التخبط الذي دخلت فيه وقوات وسلطة التحالف الاميركي البريطاني، بعد النصر السهل الذي حققته على العراق.
فهل تطيح هيئة الاذاعة البريطانية بحكومة بلير، كما أطاح الصحافي في «واشنطن بوست» بوب رودوارد بالرئيس نيكسون فيما يعرف بفضيحة «ووترجيت»؟
برسم الإذاعات العربية
لاشك أن مسئولي الاذاعات والمحطات الفضائية الارضية والعربية سيفغرون أفواههم وهم يتابعون فصول النزال بين حكومة بلير وهيئة الاذاعة البريطانية. كما ان كبار المسئولين العرب سيقفون حائرين وهم غير مصدقين عجز طوني بلير عن طرد رئيس وطاقم هيئة الاذاعة البريطانية بل وإعدامهم أو على الأقل سجنهم.
ما لا يفهمه هؤلاء هو أن هيئة الاذاعة البريطانية سلطة رابعة في بريطانيا، وهي الضمير الحي للأمة البريطانية، وهي فوق الحكومة، فمتى تكون لنا إذاعة مثل هيئة الاذاعة البريطانية؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 310 - السبت 12 يوليو 2003م الموافق 12 جمادى الأولى 1424هـ