عندما تقوم وزارة إعلام عربية مثلا، ومن خلال وسائل الإعلام التابعة لها، بنفي خبر معين أو حادث معين، ف
ونستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول إن الإعلام في المنطقة، هو في مجمله عبارة عن نوع من الدعاية المباشرة للدولة الراعية، إن لم يكن مجرد إعلان عنها وعن منجزاتها الحقيقية والمفترضة. الدعاية جزء من الإعلام، لا شك في ذلك، ولكن الدعاية المباشرة كما يمارسها الإعلام العربي، هي استفزاز لمتلقي الرسالة الإعلامية، بدلا من أن تكون كسبا له وفق أهداف الرسالة. فمثلا عندما تقوم وسائل الإعلام بمناسبة ومن دون مناسبة، بالتذكير الدائم بإنجازات الدولة وخدماتها، فإن ذلك له أثر سلبي في النهاية، من حيث إحساس المواطن مثلا بأنه «ممنون عليه» من قبل هذه الدولة التي يجد نفسه في النهاية غير منتم إليها، وهذا جزء من الآثار السلبية لفشل الرسالة الإعلامية. مثل هذا النوع من الدعاية أدى إلى انفصال الدولة عن المجتمع حقيقة، بدلا من أن يكون عونا على اندماج الاثنين وتفاعلهما. والشيء ذاته يمكن قوله من زاوية أخرى، حين الحديث عن الرسالة الإعلامية العربية إلى الخارج. فقد اعتادت هذه الرسالة على أن تكون هي نقطة الأصل، المركز الأوحد للإرسال ومن دون استقبال، وبذلك فإنها حين تخاطب «الآخر»، فإنها تخاطبه بلغة لا يفهمها، ولا يهمها أن تفهم رسالة هذ الآخر، فتتحول القضية إلى «حوار طرشان» له من الآثار السلبية على المنطقة ومجتمعاتها ونظمها ما نرى وترون. وسبب كل ذلك هو عدم الفهم العميق لطبيعة الرسالة الإعلامية ودورها، وخصوصا في زمن مثل زماننا هذا، إذ تلاشت الحدود، وتهافتت الايديولوجيات الشمولية، ولكن المشكلة هي أن العرب يبقون أسرى الزمن، سواء ماضيه القديم أو الحديث، وبنيه عقل يبدو أنه اعتاد الثبات، حتى لو كان الثبات وهما من الأوهام.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الملاحظ أيضا أن الإعلام العربي، وخصوصا الرسمي وشبه الرسمي منه (وكل الإعلام العربي رسمي أو شبه رسمي)، مازال يمارس «لعبة» إخفاء الحقائق، غير آبه بأن الزمن غير الزمن، وأنه من الممكن اليوم الحصول على المعلومة، كاملة أو مشوهة أو مشكلة من جديد، من مصادر أخرى، في ظل ثورة الاتصالات التي نعيشها، ما يؤكد كون هذا الإعلام مجرد أجهزة بيروقراطية في النهاية، لا علاقة لها بالعملية الإعلامية كما يفترض أن تكون.
والمهم في هذا المجال، أي سياسة إخفاء المعلومة، هو أن لذلك نتائج سلبية في النهاية، قد تنعكس على صاحب الرسالة ذاته. فمن ناحية، فإن هذه السياسة تعمق من أزمة الثقة بين المجتمع والدولة، وتزيد من سعة الفجوة بينهما، بحيث يصبح كل طرف سائرا في طريق مناقض للآخر، مع ما لذلك من مخاطر كارثية في عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. ومن ناحية أخرى، فإن محاولة الوصول إلى المعلومة المحجوبة عن طريق مصادر أخرى، له مخاطر أيضا على حركة المجتمع، من حيث أن المعلومة، وعلى رغم أنها معلومة، لا تأتي نقية صافية، ولكنها دائما ما تكون مغلفة بالمرجع القيمي والثقافي لمصدرها أو مرسلها، وذلك بشكل غير محسوس وغير مباشر، على عكس الحال في الحالة العربية، ما قد يؤدي إلى انتشار معلومة «مشكلة من جديد»، قد تكون مخاطرها الاجتماعية والسياسية أكبر من تلك التي توهم الإعلام بأنه يتجنبها حين حجب المعلومة من البداية. الشفافية هي الحل الأنجع في هذه الحال، وذلك بمثل ما أن الخط المستقيم هو الأقصر بين نقطتين.
السؤال الملح الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: كيف يمكن لوسائل الإعلام في المنطقة العربية أن تلعب دورا فاعلا وإيجابيا، في خضم كل هذه التحولات والتغيرات التي تشهدها المنطقة والعالم، من خلال ثورة العولمة المعاصرة؟ كما لاحظنا من خلال المناقشة السابقة، فإن المنطقة العربية تمر بشكل عام، بحال من اللاانسجام الثقافي وتداخل القيم والمعايير، إذ يلعب الإعلام دورا غير مؤثر، إن لم يكن سلبيا، في هذا المجال. من هذه النقطة يبرز الدور المعرفي المفترض للإعلام، ألا وهو محاولة إيضاح طبيعة المجتمع وما يمر به من تحولات، ومحاولة بناء نوع من الانسجام الثقافي واللغة الثقافية المشتركة في المجتمع، لا عن طريق أدلجة هذا المجتمع، ولكن عن طريق خلق الإطار المناسب لتفاعل وتعايش القيم والأفكار والتيارات، من دون الإخلال بالسلام الاجتماعي. بمعنى أن المطلوب ليس مثلا شجب هذه القيمة أو الحط من شأن تلك الفكرة بوصفها دخيلة مثلا، ولا الرفع من شأن هذه القيمة أو تلك الفكرة على أساس أنها أصيلة، ولكن نشر الوعي بضرورة التعايش بين فئات وتيارات المجتمع الواحد، على أساس أن الكل يصب في النهاية في بوتقة واحدة، هي الوتقة الوطنية. هل ان مثل هذا الأمر أيديولوجيا بحد ذاته؟ ربما، بل يمكن القول إنه كذلك، ولكنها أيديولوجيا تستوعب في النهاية كل الأيديولوجيات، وتوحد الجميع من دون أن تفقدهم التعددية الضرورية لحيوية المجتمع.
وعندما نقول «نشر الوعي»، فإن المعنى ليس منصرفا إلى نوع من «الوصاية» للمؤسسة الإعلامية على المجتمع، بحيث يكون التوجيه قادما من نقطة واحدة لا نقطة غيرها، ولكن المقصود هو جس النبض الفعلي للمجتمع، والانطلاق من هذه النقطة في عملية صنع الوعي الاجتماعي. بطبيعة الحال فإن القيام بمثل هذه المهمة يحتاج إلى نوع من الإحساس بالمسئولية من ناحية، والأهم من ذلك كله تغير جذري في مفهوم الإعلام من ناحية أخرى. وطالما كانت المؤسسة الإعلامية جزءا من البنية الحكومية للدولة، فلا أعتقد أن مثل هذه التغيرات قابلة للظهور. لذلك، وفي تقدير الكاتب هنا، فإن نقطة البدء في كل ذلك تكمن في «إعادة» المؤسسة الإعلامية إلى المجتمع المدني، ومن خلال ذلك تستطيع ممارسة دورها المفترض في هذا المجال، بوصفها جزءا من المجتمع المدني، وليست مهيمنة أو وصية عليه. بغير ذلك، تبقى الأدلجة والدعائية والانفصام عن المجتمع، هي صفات الإعلام العربي في ماضي الوقت وحاضره ومستقبله، في عالم لا يعترف بغير الفاعلية.
ومن الناحية السياسية، فإن من المعروف أنه من أجل أن يكون القرار السياسي فاعلا ومؤثرا، فلابد أن يكون نابعا من المحيط، ويصب في المحيط ذاته في النهاية (مدخلات من المحيط - عملية تحويل حكومية - قرار سياسي). فاتخاذ القرار السياسي السليم يجب أن يكون عملية إجرائية معينة، طرفاها هما السلطة السياسية والمجتمع، في حال من التداخل والتفاعل. عملية اتخاذ القرار هي بؤرة هذا التفاعل، والقرار ذاته هو خلاصة هذا التفاعل. فالسلطة الناجحة، أي المستقرة، والمنجزة ذات الشرعية، هي في النهاية تلك السلطة المتفاعلة والمتداخلة مع محيطها، سواء كان المجتمع المحلي أو العالم من حولها. الأدوات والمؤسسات التي تربط ما بين السلطة والمجتمع، وتجعل من عملية التفاعل ممكنة، كثيرة، ولعل من أبرزها في الدول الديمقراطية: الأحزاب السياسية، وجماعات الضغط، ووسائل الاتصال الجماهيري المستقلة. وفي البلاد التي تنعدم فيها مثل هذه الأدوات أو بعضها، تكون حلقة الوصل بين السلطة والمجتمع إما حزب واحد للسلطة، قد يكون شاملا لمنظمات جماهيرية لا تخرج عن خطه، وإما أن تكون وسائل الإعلام المملوكة من قبل السلطة، أو تحت إشرافها المباشر، أو هما معا. مثل هذا الوضع لا يحقق نجاحا كبيرا في عملية الاتصال غالب الأحوال، إذ ان هيمنة السلطة على مثل هذه الأدوات والوسائل، تجعل من الصعب على هذه المؤسسات معرفة النبض الحقيقي للمجتمع وحركته ومتطلباته، فالجميع والحال هذه لا يقولون ولا يفعلون إلا ما يرضي السلطة، وبالتالي فإن الصورة الاجتماعية المنقولة عبر هذه المؤسسات (الأجهزة) إلى السلطة، غالبا ما تكون مشهوة وغير صحيحة، ما يفاقم من أزمة الاتصال، وبالتالي الفجوة بين السلطة والمجتمع، ما قد يؤدي، وكثيرا ما يؤدي، إلى انفجارات اجتماعية وسياسية. ولعل في مصير الاتحاد السوفياتي وأنظمة أوروبا الشرقية خير مثال على ذلك.
ومن المعلوم أن التعددية الحزبية، ووسائل الاتصال الجماهيري المستقلة تماما عن الدولة، غير موجودة في الدول العربية عموما. وهي إن وجدت، فغالبا ما تكون مظهرا أكثر منها مخبرا، إذ تبقى السلطة السياسية هي صاحبة القول الأخير في كل شيء وأي شيء. أما الحزب الواحد وسيطرته، فقد أثبتت تجارب عربية سابقة ولاحقة فشل مثل هذا النموذج، ومن هنا تبرز أهمية إعطاء دور أكبر للإعلام ووسائله في تحقيق مهمة الاتصال والوصل بين السلطة ومحيطها. مثل هذه الوظيفة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت العملية الإعلامية مسارا بين نقطتين. أما إذا كانت العملية الإعلامية جزءا من السلطة ذاتها، فلن يتعدى دور الإعلام تمجيد كيان الدولة، ولن يكون القرار السياسي معبرا عن الحركة التي يمور بها المجتمع، مع ما لذلك من مخاطر على السلام الاجتماعي، ومن ثم الاستقرار السياسي. وعند هذا الحد من التحليل، نصل إلى النقطة ذاتها التي وصلنا إليها حين الحديث عن المهمة المعرفية، ألا وهي أنه لا حل والحال هذه إلا بكون الإعلام ومؤسساته جزءا من مكونات المجتمع المدني، وذلك لا يكون إلا بدمقرطة المجتمع والدولة. بمثل ما انه لا يمكن الحصول على البيضة إلا من دجاجة، ولا يمكن الحصول على دجاجة إلا من بيضة.
خلاصة
حاولنا خلال الأسطر السابقة تشخيص وضع الإعلام ووسائله في المنطقة العربية بشكل عام، وفي مثل هذه المرحلة من التغير السريع في عالم اليوم. ووجدنا أن الإعلام في المنطقة العربية لا يرقى حقيقة إلى مستوى المسئولية التي من المفروض أن يضطلع بها، وذلك لعدة عوامل نوقش أهمها فيما سبق من أسطر. ثم كانت هناك محاولة لتقديم حل أو علاج لتلك المثالب التي تقف في وجه إعلام عربي فعال، كلها نابعة من حقيقة واحدة في تقدير الكاتب هنا، ألا وهي تحرير الإعلام من سيطرة الدولة، وإعادته إلى حيث يجب أن يكون: ضمن بنية المجتمع المدني. فالإعلام اليوم، في ظل ظاهرة العولمة المكتسحة، تعتمد فاعليته على وجود الكيانات ذاتها، وليس مجرد جهاز دعائي كما كان الأمر في السابق. وفي حالتنا العربية، وفي ظل غياب مؤسسات الاتصال الأخرى بين المجتمع والدولة، يبرز الإعلام بصفته الوسيلة الوحيدة لمثل هذا الاتصال، الذي يعتمد عليه استقرار المجتمعات والثقافات والأنظمة في هذه المنطقة من العالم. وبذلك يبرز السؤال الوجودي الأهم في ذلك كله: هل يعي القائمون على الإعلام في المنطقة العربية مثل هذه الحقيقة، أم تبقى كلمات المهتمين بالشأن العام من مثقفين وغيرهم، مجرد تحصيل حاصل، أو حتى صيحات في برية لا أبعاد لها؟ هذا هو السؤال
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 309 - الجمعة 11 يوليو 2003م الموافق 11 جمادى الأولى 1424هـ