لو كان رئيس البرلمان الألماني الذي يعتبر الرجل الثاني في التركيبة السياسية - بعد رئيس الجمهورية - هو الذي يصنع السياسة الخارجية، لشعر المسئولون في طهران بسرور كبير. ففي الوقت الحالي يعتبر ولفغانغ تيرزي الذي ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم وينحدر من ألمانيا الشرقية السابقة، السياسي البارز الوحيد في ألمانيا الذي يقول علنا إن الولايات المتحدة تتبع سياسة خطأ تجاه إيران ويحذرها من تكرار المغامرة العسكرية التي قامت بها في حرب العراق، ضد إيران. وكان تيرزي زار إيران في العام الماضي وساهمت علاقات الثقة التي أقامها مع المسئولين الإيرانيين في الإفراج عن اثنين من المثقفين الإيرانيين قضت محكمة محلية بحبسهما لأنهما شاركا في ندوة نظمتها مؤسسة «هاينريش بل» التابعة لحزب الخضر الألماني. وقالت المخابرات الإيرانية إن المشاركين الإيرانيين قدموا خلال الندوة معلومات تخل بأمن إيران وتسيء لسمعتها. وأبلغ تيرزي صحيفة «دير تاجيس شبيجل» الصادرة في العاصمة الألمانية بأنه ينبغي على الولايات المتحدة استخدام الحوار مع طهران كوسيلة لحل النزاع معها مشيرا إلى ضرورة دعم قوى الإصلاح التي يتزعمها الرئيس محمد خاتمي. وأكد تيرزي عدم جدوى دعم جماعات إيرانية في الخارج كي تنشر الفتن في الداخل والتحريض على حرب أهلية، وقال رئيس البرلمان الألماني إن انفجار حرب أهلية في إيران سيحدث هزة كبيرة في منطقة الخليج برمتها.
وذكرت مجلة «دير شبيغل» في عددها الأخير أن تيرزي وجه دعوة إلى زميله الإيراني مهدي كروبي لزيارة ألمانيا وإجراء محادثات سياسية في برلين.
وأشارت المجلة إلى أن من شأن هذه الخطوة أن تثير غضب المسئولين في الإدارة الأميركية الذين ينشطون في حرب كلامية حامية الوطيس مع طهران كما تأتي في مرحلة تحاول فيها الحكومة الألمانية يائسة تحقيق مصالحة مع واشنطن بسبب نزاعهما على حرب العراق. ففي منتصف يوليو/ تموز الجاري سيزور وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر واشنطن للمرأة الأولى منذ نهاية حرب العراق، لإجراء مباحثات سياسية. ويتردد في برلين أنه سيطرح فكرة عقد لقاء قمة بين المستشار شرودر والرئيس بوش. غير أن إيران ستراقب زيارة فيشر لواشنطن بدقة ذلك أن الولايات المتحدة تعمل منذ وقت على تحريض الأوروبيين ضد طهران. وكان من أبرز نتائج هذا الضغط الأميركي قبول الاتحاد الأوروبي في قمة تسالونيكي مبدأ استخدام القوة العسكرية كآخر خيار ضد دولة تملك أو تسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل مشترطة التنسيق مع هيئة الأمم المتحدة. وكانت أوروبا انقسمت على موضوع الحرب على العراق حين وقفت فرنسا وألمانيا مع روسيا في صف معارض للنوايا العسكرية الأميركية، بينما ساندت بريطانيا واسبانيا وإيطاليا والدنمارك والبرتغال وبولندا، القوة العظمى ما أضعف الاتحاد الأوروبي وكشف عن اختلاف مصالح الدول الأعضاء وتأثير الولايات المتحدة على مجموعة كبيرة منهم. وكانت أبواب البيت الأبيض بقيت موصدة بوجه فيشر حين عبر المحيط الأطلسي إبان احتدام المناقشات عن الأزمة العراقية ولم يحصل حتى على عقد لقاء قصير مع مستشارة البيت الأبيض للأمن القومي كوندليزا رايس التي يشاع أن الرئيس بوش أمرها بأن تضع العراقيل في طريق فيشر كي لا يحصل على منصب وزير خارجية الاتحاد الأوروبي. غير أن فيشر يعرف أنه ينبغي عليه مجاراة واشنطن ويفسر المراقبون تصريحاته الحادة تجاه إيران على أنها تصب في هذا الاتجاه.
وكشف النقاب عن مضمون جلسة سرية عقدتها لجنة الشئون الخارجية التابعة للبرلمان الألماني صدر خلالها عن فيشر تصريحات شديدة اللهجة تجاه إيران وقال إنه لا يكفي دعوتها إلى توقيع اتفاق إضافي لاتفاق الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل مع المنظمة الدولية للطاقة الذرية، والسماح للمفتشين الدوليين بتفقد منشآتها من دون سابق إنذار، بل ينبغي عليها وقف العمل في برنامجها النووي لأنه من شأن هذا البرنامج أن يؤدي لاحقا إلى انتاج أسلحة نووية. وأضاف فيشر «انه لا يقبل الحجة الإيرانية بأن البرنامج النووي معد لأغراض مدنية».
أبرقت السفارة الإيرانية في برلين ما نشر على لسان فيشر في الجلسة المغلقة وسرعان ما أيقظت تصريحات فيشر ذكريات دفينة. فحين كان فيشر الذي ينتمي إلى حزب الخضر، الزعيم الخفي للمعارضة الألمانية في عهد المستشار السابق هيلموت كول، تسبب في هزيمة برلمانية لحكومة يمين الوسط بعد وقت قصير على مقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين. وقاد حملة مناهضة لإيران عقب تصريح صدر عن الرئيس الإيراني علي أكبر رفسنجاني وصف فيه مقتل رابين بأنه عقاب من رب العالمين لأن رابين أمر قبل وقت قصير بقتل زعيم (الجهاد الإسلامي) فتحي الشقاقي في جزيرة قبرص. وكان وزير الخارجية الألماني كلاوس كينكل وجه الدعوة آنذاك إلى عدد من وزراء خارجية الدول الإسلامية بينهم وزير خارجية إيران علي اكبر ولايتي، للمشاركة في ندوة بقصر بطرسبرغ قرب بون للحديث عن قيام حوار إسلامي أوروبي. وحصل فيشر على تأييد البرلمان الذي أدان تصريحات رفسنجاني وطلب من كينكل سحب الدعوة التي وجهها إلى ولايتي وكانت النتيجة قيامه بإلغاء المؤتمر. وحين حصل فيشر على منصب وزير الخارجية في أكتوبر/ تشرين الاول العام 1998 كانت إيران تنظر بحذر إلى مواقفه.
وتنظر إيران بحذر للتصريحات التي تصدر منذ أيام على لسان السياسيين الألمان. بعد أن أثارت تصريحات تيرزي البهجة والسرور في نفوسهم ونقلتها وكالة الأنباء الإيرانية كما نقلت صحيفة «طهران تايمز» تصريحات ناقدة للولايات المتحدة على لسان عضو البرلمان السابق التابع للحزب المسيحي الديمقراطي المعارض روبريشت بولينز، أثارت تصريحات فيشر ردود فعل عنيفة وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أن تصريحات فيشر تهدد صفو العلاقات التقليدية بين البلدين.
هذا صحيح، فالعلاقات بين ألمانيا وإيران تاريخية وتقليدية وتعتبر ألمانيا بوابة إيران المطلة على الغرب. وفي هذا الإطار حاولت برلين القيام بدور وساطة بين طهران وواشنطن ولم تكف عن دعوة الولايات المتحدة إلى دعم نهج الرئيس خاتمي إلى أن بعثت واشنطن بتهديدات إلى برلين وطلبت الكف عن دعوتها إلى تغيير سياستها تجاه إيران. لكن لا أحد في برلين يتحدث كلمة واحدة فيما إذا سيلبي المستشار شرودر الدعوة التي قبلها من الرئيس خاتمي حين زار الأخير برلين ولا يتصور أحد أن يقوم شرودر بزيارة إيران طالما الخلاف محتدم مع واشنطن وطالما إيران على قائمة الدول المارقة.
ويسجل الإيرانيون بقلق بالغ زيادة حدة تصريحات فيشر واصبحوا يؤمنون بأن هناك حدودا للعلاقات مع الألمان. ويعتبر البرنامج النووي الإيراني. الذي تقول طهران إنه معد لأغراض مدنية بينما تشك الولايات المتحدة ومعها الأوروبيون في أنه يرمي إلى انتاج أسلحة الدمار الشامل، عنصر سلبي على مسار علاقات طهران مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي. وتعتقد طهران أن واشنطن تحرض الأوروبيين عليها.
الورقة الوحيدة بأيدي الأوروبيين هي التهديد بوقف المفاوضات الجارية منذ أكثر من عام بين الاتحاد الأوروبي وطهران بهدف توقيع اتفاق للتجارة وحماية الاستثمارات. وتحتاج إيران إلى هذا الاتفاق كي توسع نشاطاتها التجارية مع الأوروبيين وهي رابع أهم شريك تجاري للاتحاد الأوروبي في منطقة الخليج. ويعتقد دبلوماسي في المفوضية الأوروبية في بروكسل أنه من المرجح تجميد هذه المفاوضات فترة من الوقت لأن أحدا من الطرفين لا يريد إلغاء المفاوضات لكن ينبغي مراعاة واشنطن التي اصبح نفوذها كبيرا على الأوروبيين بعد «النصرين العسكريين» في أفغانستان والعراق وأضاف الدبلوماسي قوله: إن الرسالة الموجهة إلى طهران واضحة: «ما من طائر يستطيع التحليق بجناح واحد»
العدد 309 - الجمعة 11 يوليو 2003م الموافق 11 جمادى الأولى 1424هـ