ازداد الكلام في المدة الاخيرة عن احتمال عودة الولايات المتحدة إلى فكرة «التدويل» بعد فشلها في ضبط الوضع الامني في العراق وإعادة الحياة الطبيعية إلى بلد عانى الكثير من الاستبداد والفساد والحروب والحصار.
فكرة «التدويل» فرنسية اساسا، وكانت باريس طرحتها قبل الحرب على العراق كحل وسط بين فريق الحرب وفريق «الضد» الذي طالب باعطاء فرصة أطول لفرق التفتيش الدولية بحثا عن ما يسمى بـ «أسلحة الدمار الشامل».
آنذاك كانت فرنسا، مدعومة من المانيا وروسيا، ترفض الحرب وحتى تكسب ثقة الرأي العام لجأت إلى طرح مشروع «القبعات الزرق» الذي يقضي بارسال قوات دولية تابعة للأمم المتحدة تشرف شرعيا وبرقابة دول مجلس الأمن على ترتيب الوضع الامني ووضع العراق مباشرة تحت مظلة دولية تسهم كل الدول صاحبة المصلحة في حل الازمة في ارسال قواتها ضمن شروط تضعها المؤسسة الدولية.
وجاء الاقتراح الفرنسي حلا وسطا بين مجموعة مصالح متضاربة وبهدف منع وقوع الحرب وانقاذ الشعب العراقي من كارثة وضمان مصالح الدول الكبرى وضبطها في ايقاع متوازن من دون حاجة إلى تعطيل الشرعية الدولية وتأزيم العلاقات بين دول مجلس الأمن.
الاقتراح الفرنسي عن «القبعات الزرق» لاقى الترحيب من دول كثيرة إذ وجدت فيه خطوة سياسية ذكية لا تريد إشعال الحرب وايضا لا تريد إغضاب الولايات المتحدة التي يبدو أنها قررت الحرب وتورطت في صنعها وتحولت إلى نوع من الحاجة الداخلية النفسية.
كان بامكان واشنطن آنذاك ان تؤيد الاقتراح الفرنسي وان تجد فيه عناصر واقعية لتسوية ازمة باتت تهدد العلاقات الدولية (وتحديدا الاميركية - الاوروبية) وتضعها على خط الانهيار. الا ان «كتلة الشر» الحاكمة في «البنتاغون» رفضت الاقتراح وهاجمت بعض الدول الاوروبية متهمة إياها بأنها «اوروبا القديمة».
وأصرت «كتلة الشر» على مواصلة الحشد والضغط باتجاه تفجير الحرب معلنة أنه لا مجال في هذه المسألة للتسوية فاما ان تكون اوروبا مع أميركا أو ضدها. فالحرب على العراق تحولت في قاموس ادارة البيت الابيض إلى نوع من التحدي السياسي ومن يخالفها فانه يتحدى كرامة الولايات المتحدة وعنفوانها وجبروتها. فالحرب تحولت في تلك الفترة الفاصلة بين صدور قرار مجلس الأمن في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إلى لحظة إعلانها إلى قرار اميركي خالص ومسألة شخصية لها صلة بالاوضاع العائلية والنفسية للرئيس جورج بوش.
وبات كل من يفكر أو يخالف أو يعترض أو يقترح مجرد خصم جديد يجب ان يوضع في خانة «اعداء اميركا». لذلك لم يكن من المنطقي بالنسبة إلى إدارة تعصف بها العواطف الهائجة وايديولوجيا «الحروب الدائمة» ان تصغي لاقتراح واقعي يحاول ان يجتهد في صوغ تسوية عاقلة لازمة كادت ان تطيح بكل ما انجزته الانسانية من مواثيق ومعاهدات واتفاقات طوال العقود التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية.
آنذاك لم تكن واشنطن مستعدة نفسيا وعقليا واخلاقيا للاستماع أو لرؤية وجهة نظر أخرى غير رأيها وسلوكها وسياساتها. الموضوع الوحيد الذي كانت «كتلة الشر» مستعدة لقبوله هو تطابق الرأي الآخر مع وجهة نظر واشنطن وما عدا ذلك كان مجرد كلام يقال لعرقلة مسيرة الهجوم الذي سيقع مهما كانت نتائج التحقيقات التي تجريها فرق التفتيش عن الاسلحة في العراق.
عراق «صدام حسين» رفض الاقتراح الفرنسي. فهو (صدام) انطلاقا من جنون العظمة وغروره بنفسه وقوته (المستبدة) اعتبر ان فكرة التدويل (القبعات الزرق) تنتقص من كرامته وسيادته وتعطي شرعية لهيئة دولية تراقب افعاله وتصرفاته. فالرئيس العراقي آنذاك توهم ايضا ان الاقتراح الفرنسي يعطي فرصة للولايات المتحدة بالهروب من ورطتها وأن الخوف الاميركي من قوته هو الذي دفع الرئيس جاك شيراك إلى طرح صيغة قانونية تفسح المجال للولايات المتحدة بالسيطرة على العراق باسم المنظمة الدولية وبقرار صادر عن مجلس الأمن. وبين غرور صدام وعناد بوش وقعت الحرب على العراق وكان الذي كان.
الآن تعود فكرة التدويل (القبعات الزرق) إلى واجهة البحث وهي مع انها جاءت متأخرة وبعد فوات الاوان يمكن ان تشكل محطة حوار للقوى الكبرى وتعطي فسحة للتفكير في ابتكار اساليب جديدة لاحتواء الازمات الاقليمية من دون ضرورة لاستخدام القوة واللجوء الى الحروب كوسيلة وحيدة لمعالجة القضايا الانسانية المشتركة.
والمشكلة الآن تتركز على الصيغة القانونية للاقتراح ومبررات طرحها وما هي عناصرها والقوى المشاركة في تطبيقها فالازمة العراقية مختلفة في جوهرها عن تلك الازمات الاقليمية التي اسهمت القوات الدولية (القبعات الزرق) في معالجتها. فهناك مثلا قوات دولية في قبرص، وفي جنوب لبنان، وفي الجولان وغيرها من مناطق التوتر وخطوط التماس. وهناك أيضا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يطالب بارسال قوات دولية للاشراف على وقف اطلاق النار ومراقبة الخطوط الفاصلة بين الطرفين وترفض الولايات المتحدة الاستجابة لهذا الاقتراح الفلسطيني وتصر واشنطن على مواصلة سياسة الانحياز الدائم والدعم الشامل لطفلها المدلل «اسرائيل» ورئيس حكومتها (الملاحق دوليا لارتكابه جرائم حرب، ارييل شارون. فعرفات يطالب بقوات دولية (اميركية بالخالص اذا اصرت واشنطن على الامر) والبيت الابيض يتجاهل الطلب الفلسطيني ويغض النظر عن إقدام تل ابيب على بناء جدار امني فاصل بين الطرفين على امتداد 150 كلم وبعمق 15 - 16 كيلو مترا في داخل الاراضي المحتلة في العام 1967 وبتمويل من دافع الضرائب الاميركي.
اذا هناك اكثر من مكيال تكيل به واشنطن واكثر من ميزان عدالة تزن به حقوق الشعوب وتحديدا اذا كانت تلك الشعوب تنتمي إلى العالمين العربي والاسلامي.
المهم الآن أن هناك أزمة عراقية والحرب لم تكن هي العلاج السليم ولا الحل السحري، وهذا ربما يفسر العودة مجددا إلى الكلام عن مشروع التدويل (القوات الدولية). فرنسا نفت علمها بالامر وقالت إنها لم تتلق اي اتصال دولي يتعلق بهذا الشأن وتحديدا مسألة ارسال قوات خاصة تعمل في العراق وباشراف دولي. فهل الكلام عن «القبعات الزرق» مجرد محاولة لكسب الوقت أم هو بداية اعتراف اميركي بالفشل؟
الجواب ينتظر بعض الوقت
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 308 - الخميس 10 يوليو 2003م الموافق 10 جمادى الأولى 1424هـ