العدد 307 - الأربعاء 09 يوليو 2003م الموافق 09 جمادى الأولى 1424هـ

الإعلام العربي بين الحرية والقيود

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

نحن في مرحلة من تاريخنا العربي نحتاج فيها إلى إعادة فهم (دور الإعلام) في مجتمعاتنا العربية، بعد التغيرات الكبرى في العالم وفي المنطقة أيضا، فالاعلام الرسمي، الحكومي، الموجه، هو من مظاهر الماضي، وكلما أسرعنا في فهم هذه الحقيقة كان ذلك أفضل لمجتمعاتنا، فقد استقر في قناعة المجتمعات الحديثة أن الديمقراطية لا تؤدي وظيفتها من دون اعلام حر وشفاف مفتوح ومتوازن، يحق لكل فئات المجتمع حرية امتلاكه والوصول إليه، من دون معوقات سياسية أو قانونية أو اجتماعية، بل ان الديمقراطية ليست صناديق انتخاب، ولا تداول سلطة، فذلك يمكن أن يخترق بطرق شتى، الديمقراطية هي ضمان واضح وحقيقي للحريات، وعلى رأسها حرية الاتصال والنشر والقول والتجمع.

الاعلام الموجه هو من نتاج ايديولوجية شمولية، كانت في البداية فاشية ونازية ثم أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية (شيوعية اشتراكية) ناسبت في وقت ما مرحلة من مراحل التطور العربي (أو عدم التطور على أكثر دقة)، وفي الحالات كلها نتجت عن تلك الممارسات السياسية والاعلامية الشمولية مآسٍ مازالت بعض الشعوب العربية تدفع ثمنها إلى اليوم، قادت في أكثر أشكالها بؤسا إلى (وعي) مزيف بالنفس وبالآخر. أزمة الاعلام العربي، هي أزمة النظام السياسي القائم، الذي يشكو من اعتلال هيكلي، أو اختلال بنبوي، جعل الصورة التي يقدمها اعلامه ثمرة العلاقة الالحاقية بين (المعرفة والسلطة)، من أجل إعادة إنتاج شروط الهيمنة السياسية وابقاء الحال على ما هي عليه.

لقد كانت الفلسفة التي تقف خلف تبني الاعلام المركزي الموجه، أن الشعوب غير (ناضجة) في فهمها للحياة، ولا هي قادرة على تحديد أولولياتها، لذلك يجب أن تتبع ما يريد لها (الزعماء)، وبالتالي تحتاج إلى قيادة تهديها الدليل، وترى هذه المدرسة أن (المنطق) مهارة ضيقة النطاق، يتمتع بها عدد قليل من الناس، ذلك أن غالبية الناس منساقون وراء عواطفهم، لذلك يتحتم توظيف (أصحاب المهارات) ليخلقوا (أوهاما) ضرورية لالهاء العامة وتبريرات (عاطفية) لابقاء السذج على ما هم عليه خلف أسوار الجهل، و(ترويضهم) للقبول من دون تساؤل بما يتدفق عليهم من وسائل الاعلام، التي يجب أن تمتلكها الدولة صاحبة (المشروع)؟

لذلك كانت تسمية مؤسسات الاعلام العربي الأولى وزارة (الارشاد)، والمعنى ذو دلالة رمزية لا تخفى، ثم تحول إلى تسمية أخرى هي (الاعلام). ولقد كان ولايزال الاعلام العربي حبيس ذلك الفهم الضيق لتداول المعلومات حتى بعد ثورة الاتصالات التي اجتاحت العالم وحتى بعد ثورة الانترنت التي لم يعد أمامها حواجز، فالاعلام الشمولي يراد له أن (يصنع) ويوحد وجهات النظر، ويخلق بيئة فكرية (تقبل) من دون نقاش ما يقال لها عبر وسائط الاعلام الشمولية، وترفض في الوقت نفسه ما يأتي من خارجها، إما بمنع الخارج من التدفق أو بتشويهه، وبالتالي تمنع ايجاد فضاء يقيس ويحكم (عقليا) على ما يُقرأ في صحف الصباح، أو يُسمع في نشرات المساء في التلفزيون!

تقول لنا إحدى الدراسات المهمة في هذا الموضوع وهي دراسة ماريا ستاغ (حدود التعبير في مصر) ان بلدا عربيا كبيرا مثل مصر، استمرت الرقابة على الصحف فيه من 1952 إلى 1975 من دون انقطاع، عدا ثلاثة اشهر قصيرة (عندما اختلف عبدالناصر ومحمد نجيب في العام 1954) هذه الحقيقة تؤدي إلى القول بأن الرقابة على الاعلام والصحافة في بلادنا العربية كانت ولاتزال موجودة بشكل من الاشكال، وهي قاصمة الظهر لكل خطة أو طموح عربي للخروج من المأزق الحضاري الذي نعاني منه، وتعج شبكة الانترنت اليوم بالدراسات التي تشتمل على الاسماء و المنشورات الممنوعة من النشر والكتابة أو الدخول للبلد، في هذا البلد العربي أو ذلك، وهي قوائم طويلة!

تقييد الفكر

تقييد حرية الاتصال في المجتمعات العربية والرقابة عليها تأخذ بصورة من الصور المنحي (الأمني)، وهي واحدة من القضايا التي أوصلتنا الى ما نحن فيه كعرب، وما نشكو منه في حياتنا السياسية والاقتصادية والفكرية، فتقييد الفكر يعني ألا يكون هناك فكر ان أمكن أو إشاعة فكر مشوه، وانعدام الفكر أو تشويهه يعني الضعف والموت البطيء للأمم، فعافية الدول تكمن في حرية التفكير، وضعف الأمم هو الذي يقود إلى اخضاعهم للآخر لا العكس.

ولقد تبنت الشمولية العربية (شمولية الاعلام) درجة فاضحة، إذ نقل احد الكتاب عن الرئيس العراقي السابق عندما لامه البعض على الصرف البذخي على الاعلام أنه قال: «إن ما يصرف لا يساوي ثمن دبابة واحدة».

ويذهب احد الباحثين إلى اعتبار أن (امتلاك المجتمع لوسائل الاعلام) هو الفارق الاساس بين أن نصف هذا المجتمع بأنه ديمقراطي أو دكتاتوري، إذ يقول نعوم تشومسكي: «إن المجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يملك فيه العامة (الجمهور) الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شئونهم، وان تكون وسائل الاعلام منفتحة وحرة».

إلا أن هذا الامتلاك له شروط قد لا تتوافر في الكثير من المجتمعات، وليس القول بأن (الاعلام العربي) يتجه إلى المركزية واشاعة الرأي الواحد، أن نقول ان (الاعلام الغربي) هو (كامرأة قيصر) خال من العيوب، فهو أيضا له (أهداف) ويتوسل بـ (وسائل) تقربه من تلك الاهداف، فالاعلام الغربي كما تطور هو القدرة على (تصنيع الاجماع) بان يقدم إلى الجمهور من الآراء والطروحات ما هو مقنع باتجاه ما، يريد هذا الاعلام أن يقنع به الجمهور، لذلك قيل في الغرب ان افضل سلطة يتمتع بها السياسي هي سلطة الاقناع.

تبرير نقد الاعلام الغربي

ليس الأمر المطروح هنا على كل حال هو نقد الاعلام الغربي ووسائله وآلياته وأهدافه، فهو أيضا له حدود يتعامل ضمنها، في اطار من الموقف العام الذي تفرضه الديمقراطية الغربية الماثلة وأيضا المصالح العليا للبلاد، إلا أن نقد الاعلام الغربي لا يجوز ولا يصح أن يصب في خانة (تبرير الاعلام العربي الشمولي واخطائه) كما يجب علينا الاعتراف بأن ذلك القصور في الاعلام الغربي اقل بكثير من القصور في اعلامنا، وان نقر بقصوره لا يعني أبدا أن نقول انه اعلام «مضلل وكاذب»، بسبب ما يسمح به فضاء الديمقراطيات الغربية من رأي ورأي آخر، وهو فضاء دلالي واضح.

أمراض الاعلام العربي

الشمولية: هي صفة عامة للاعلام العربي، فمعظم وسائل الاعلام المرئية أو المسموعة هي ملك للدولة (الاستثناءات قليلة)، فهناك صحف في لبنان وبعض محطات التلفاز فيه أو خارجه، الناطقة بالعربية تملكها إما شركات أو اشخاص، وبتدقيق النظر في الملكية حتى لمثل هذه المؤسسات نجدها مملوكة لأحزاب، وهو أمر أكثر هونا، أو لرأس مال له أغراضه التي لا تبتعد عن اهداف الدولة. إلا أن الأغلب الأعم من وسائل الاعلام العربية هي مؤسسات تابعة للدولة، في بعض البلدان العربية تجد أن (الوصول) إلى مثل هذه المؤسسات بمعنى النشر أو الحديث من خلالها متاح نسبيا، أما الملكية فهي عزيزة، دونها الكثير من العقبات القانونية و السياسية، ولذلك أصبحت هذه الوسائل أدوات (ابتزاز وتجارة) والكثير منها أهدافه بعيدة عن توعية المجتمع.

القانونية: يقف القانون بالمرصاد لوسائل الاعلام العربية، فهي تعطل أو تغلق، ولقد أغلقت أخيرا محطة تلفزيونية في لبنان وأخرى مؤقتا منذ اشهر، ولبنان بلد يقول عنه أهله انه (بلد الحريات) أما ملكية وسائل الاعلام المرئية فيه فنادرا ما تكون ملكية عامة للجمهور أو حتى الأحزاب السياسي، انها مملوكة (للوردات الحرب)، ولقد وقف القانون في البلاد العربية أمام إصدار الصحف إلى درجة أن اضطرت صحف عربية إلى الصدور من الخارج موجهة إلى الداخل منها مجلات وصحف يومية، ومحطات إذاعة أو تلفزيون، ولقد بدأت الدول ذات المصالح تتبين الضعف في الاعلام العربي فبدأت إذاعاتها ومحطاتها التلفزيونية العمل الموجه إلى العقل العربي.

نتيجة هذا الوضع الذي طال كثيرا أحدثت تشوهات كبيرة في الرأي العام العربي، فهو رأى عام يميل إلى (نظرية المؤامرة) لكثرة ما تدفقت عليه الاكاذيب من الاعلام الرسمي، يجنح إلى عدم التصديق، ما أدى إلى توتر واضح في الممارسات السياسية العربية، وملاحقة الصحافيين، والخلط بين مهنتهم ومهنة المخبرين.

يصاحب الاعلام العربي (فقر) في التدريب ونقص في المهنية، فكل المهن تحتاج إلى تدريب من ابسطها الى اعظمها إلا مهنة الاعلامي في بلادنا العربية، غالبا ما يكون (هاويا) انقلب الى اعلامي، أو مهتما على افضل تقدير، معظم من يعمل في هذه المهنة من العرب هم قادمون إليها من مكان آخر، غير مؤسسات التعليم والتدريب على هذه المهنة ذات الحساسية العالية.

يتبع ذلك (اختراقات) مهنية شديدة الانحدار بهيبة الاعلام، كأن تكون هذه الاختراقات مالية (فساد) او تكون اخلاقية، او شخصية، وليس هناك من (مرجعية) مهنية في البلاد العربية، والتي تقرر ما إذا كان الاختراق الاعلامي هذا من الذي يسبب الضرر للاشخاص والمؤسسات وأنه قائم على أساس شخصي غير مهني بعيد عن الحقيقة يمكن أن يعاقب. كما أن القضاء في مثل هذه الحالات إما قوانينه غير واضحة، أو ليس بالضرورة هو المرجع الأكثر عملية وتأثيرا، وهناك في معظم دول الغرب مؤسسات اهلية أو مشتركة نابعة من الهيئات المهنية الصحافية، تراقب (مهنية) و(صدقية) الاعلامي، وتكون المرجع للتقليل من مثل تلك الاختراقات.

يصاحب الاعلام العربي منهج (الاستباحة) فليس هناك قواعد اخلاقية أو علمية في النقاش العام وسائل الاعلام، العالم بالامور يتساوى مع سطحي الاهتمام، والسياسي ذو التوجه المخالف يستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في تناول القضايا العامة والخاصة، وبذلك فليس هناك سقف للنقاش الموضوعي.

يفتقد التخصص في الاعلام العربي، وهو أمر يسبب ضررا بالغا للمهنة، فتداخل التخصصات يجعل من الاعلام العربي (بازارا) حقيقيا.

الترويض وبيع الوهم، من أهم أهداف الاعلام الشمولي (العربي). فترويج الوهم السياسي في تحويل (الهزائم) إلى انتصارات، والوهم الاقتصادي من (ضنك) إلى بحبوحة، أما (الترويض) فهو ابقاء الجمهور العريض تحت تهديد الخوف والقلق من (السلطة) التي تعلم ك

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 307 - الأربعاء 09 يوليو 2003م الموافق 09 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً