الحرية... الحرية... الحرية، شعار يتكرر يوميا على ألسن الناس في كل مكان، ولكن ما المقصود بالحرية؟ هذا ما اختلف بشأنه الفلاسفة والمفكرون والساسة وغيرهم.
الحرية المطلقة أمر يتعارض مع طبيعة الإنسان، فلا حرية مطلقة إلا في الغابة، إذ ان كل حيوان حر فيما يفعل وفيما يأكل وفيما يشرب وفيما يفترس. وتلك الحرية المطلقة التي لا تخضع لعقلنة تنتجه غابة متوحشة خالية من كل المظاهر المدنية. وخروج الانسان من الغابة يعني أساسا ايمانه بوجود حدود وقيود لما يفعل ويقول، وأين يفعل وأين يقول .
الإنسان لو كان حرا بصورة مطلقة لكان يبحث عن العراء، ولكنه بما أنه يؤمن بضرورة وجود الحدود فإنه يبني له منزلا يحمي تلك الحدود. ولكن هذا المنزل لو تحول إلى زنزانة فإن الإنسان انتقل إلى الحالة المتطرفة في وجود القيود، وبالتالي فإنه لا يهنأ بعيشه.
يقال ان أحد قادة المغول الذين غزوا البلاد الإسلامية قبل سبعة قرون سُئل عن سبب حرق البيوت وتدمير الأملاك، فكان جوابه ان امهات المغول أنجبنهم في العراء وهكذا ينبغي ان يكون الحال بالنسبة الى الأرض التي يسيطرون عليها... عراء من دون سقف تحد نظر من يعيش فيها.
وهذا المفهوم للحرية همجي ويقترب من النظرية الفوضوية التي تود الخروج على كل نظام والانتقام من أي حد حتى لو كان من أجل مصلحة عامة قررتها الأكثرية العاقلة في ذلك المجتمع.
على الطرف الآخر من النظرية الفوضوية هناك من يؤمن بضرورة الاجراءات البيروقراطية في كل شيء، لأن لكل شيء ضوابط (حدود)، وهو ما يحول الحياة إلى «سجن حديدي» في كل جانب من جوانبها، كما عبر عن ذلك الفيلسوف الألماني ماكس فيبر.
الحدود التي يقبل بها الإنسان هي التي لا تقضي على حريته الشخصية بصورة كاملة. والحدود مطلب إنساني عادل تترجمه الحركات الدستورية التي تطالب بوضع قيود وحدود على الملكية وعلى السلطة التنفيذية، لأن انعدام الدستور (أي القواعد والضوابط والحدود) يعني السماح لشخص ما أو لفئة ما أن تعتدي على حريات الآخرين إلى الدرجة التي تقضي على العيش الكريم.
صراع الإنسان في حياته صراع من أجل الحدود وصراع آخر للتخلص من الحدود. الحدود الأولى هي تلك الضوابط العقلانية التي تمنع اساءة فرد ما أو جهة ما إلى الآخرين، والحدود الأخرى هي التي تمنع الإنسان من الاستمتاع بحياة كريمة غير خاضعة للذل أو الاذلال.
أما مناسبة الحديث عن الحرية هو ما يكرره بعض المسئولين عند الحديث عن قانون سيئ، وهو ان النظام مطلوب في كل بلد وان الحرية المطلقة غير ممكنة. وهذا الكلام صحيح، إلا انه «كلمة حق يراد بها باطل». فالحدود المقبولة انسانيا هي التي لا تضر بالحقوق الأساسية للمواطن. والحقوق الأساسية هي أدنى مستوى في الحرية التي وافق عليها المجتمع الدولي واعتُمدت أساسا لمنظمة الأمم المتحدة من خلال الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في العام 1948، ومن خلال المعاهدات والمواثيق الدولية المعتمدة من غالبية المجتمع الدولي.
انعدام القانون هو انتشار للفوضى وعودة للوحشية وهذا أمر صحيح ولا خلاف عليه. ولكن هذا ينبغي ان يفهم في سياق الحديث عن انتقال الإنسان من الغابة التي ليس بها حدود الى منزل يعيش فيه. ولكن عندما يتحول المنزل إلى سجن يخنق الإنسان فإنه لا يعد مقبولا. وهكذا الحال مع القانون الذي يوضع لمنع الانفلات والفوضى، ولكن شريطة ألا يتحول هذا القانون إلى زنزانة انفرادية أو إلى حجرة ضيقة لا توجد فيها تهوية مناسبة لعيش كريم. فلا بد ان نبحث عن القانون الذي يضمن حقوقنا الأساسية (وبذلك يضمن حرياتنا الإنسانية) ولكنه يحمي المصالح العامة من خلال تنازل الإنسان عن بعض (وليس كل) حرياته.
وعلى هذا الأساس فإن حكم القانون العادل يؤدي إلى مزيد من التطور المدني - الانساني، بينما ينعدم التطور وتتراجع الإنسانية كرامة وذوقا مع قانون غير عادل. فالقانون يسمو على الناس باسم المصلحة العامة، والمصلحة العامة يحددها ممثلو الشعب الذين يلتزمون بضوابط حقوق الإنسان وهذه هي دولة القانون التي ناضل من أجلها البحرينيون منذ مطلع القرن الماضي، وهي التي يناضل من أجلها كل الناس في كل انحاء العالم.
ان أملنا كبير في أن نتعلم من التجارب التي نمر بها، حلوها ومرها، لكي نطورها إلى ما يليق بتضحيات البحرينيين خلال سنوات طويلة من الحركات المطلبية.
وعندما نتفق على الخطاب السياسي بشكل مقبول على أساس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبشكل لا يتعارض مع ديننا الحنيف، فإننا نستطيع التحدث عن كل الموضوعات من دون قيود مصطنعة ومن دون قرارات خارجة عن أسلوب الحكم العادل
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 307 - الأربعاء 09 يوليو 2003م الموافق 09 جمادى الأولى 1424هـ